المسرح العقائدي

المسرح السياسي

المسرح الشعبي

الكوميديا ديللارتى

عندما اقول " مسرح فرعونى " فاننى لا اجد امامى دلالة محددة اذ عن اى مسرح يمكن الحديث؟

الحق أن المدخل الحقيقي للمسرح الفرعوني يبدأ بتحررنا من المسرح التقليدي الذي تبلور في القرن السابع عشر والذي قام على تطبيق نظريات رسامي ومنظري فلورانسا بدءا من دللابورتا حتى ليورنادو دافنشى وهو الذي يطلق عليه نقاد أوربا حاليا مسرح العلبة.

قد ننبذ في عصرنا الحالي مثل هذا المعمار الفلورانسى إلا أننا لو وضعنا أنفسنا في السياق التاريخي الذي ولد فى ثناياه ذلك المسرح سنجده أول ثورة في الدراما الحديثة..... لماذا ؟

لان أوروبا منذ القرن الخامس حتى القرن السادس عشر لم تعرف البنية السياسية – الاجتماعية الموحدة والمركزية التي اصطلحنا على تسميتها : الدولة – الأمة.

Etat nation كانت مجموعة من الإقطاعيات يرأس كل أقطاعية أمير أو دوق أو بارون حسب المسافات الجغرافية واللغوية بين الإقطاعية والأخرى والإقطاعية عبارة عن ارض زراعية شاسعة تقسم الى قرى ومدن صغيرة أما سكانها فتتكون من أغلبية من الفلاحين هم كالأرض تماما ملك للسيد الاقطاعى.

هذا عن البيئة السفلى أما البيئة العليا فتمثل فى قطاع ايديولوجى يتمركز فى السلطة الدينية فالكنيسة أينما وجدت هي مركز الأنشطة الاجتماعية الى جانب دورها العقائدي فالمدارس ملحقة بها وكذلك التعليم العالي وفى الكنيسة تقام مراسم الزواج وبالمثل مراسم الجنازات ثم هناك ما يهمنا فى بحثنا هذا واعني به المسرح .

فالمسرح ملحق بالكنيسة وملامحه السينوجرافية تتمثل في لوحات تصطف من اليسار إلى اليمين كل لوحة عبارة عن بلد او واحة أو اى مكان وطئته أقدام قديس والحركة تأتى وفق رموز اللوحات ...ففي اليسار الدنيا واللوحات التالية هي رمز الطريق الذي يسلكه من يريد الخلاص والوصول إلى جنات عدن.... ثم فجأة حدث انقلاب في الإبداع الدرامي فالفلاحون اتجهوا إلى نشاط انتاجى كالغزل والنسيج وتعتيق الخمور وتفصيل الملابس ولما كانت قوانين الإقطاعية تحرم الخروج من بواباتها فالخروج جريمة تؤدى الى حرق مرتكبها لكا كانت تلك القوانين الإقطاعية فبيع المنتجات يتم بواسطة عصابات التهريب.

مع توالى الإنتاج تراكم نوع من رأس المال لدى الفلاحين وفطن الإقطاعيون إلى ذلك وكانوا على وشك الإفلاس بعد ان أنهكتهم الحروب الصليبية ثم بعدها الحروب بين إقطاعية وأخرى بهدف ضم هذه إلى تلك...هنا فكر السادة الإقطاعيون بأن يسمحوا للفلاحين ببيع منتجاتهم الواقعة بين حدود إقطاعية وحدود الأخرى وهى أماكن اصطلح على تسميتها بالبورج burg وبدأ الإقطاعيون في إشاعة نظام الجمارك ثم الضرائب على الإنتاج في داخل الإقطاعية.

مع تحول أعداد هائلة من الفلاحين إلى حرفيين وصناع أطلقوا عليهم " أبناء البورج " وبالفرنسية هى بروجوا bour-geois وكان ذلك ميلاد الطبقة البرجوازية ميلاد يستغرق عدة قرون حتى يصل البرجوازى إلى سن الرشد.

ولنرجع الى ما يحدث فى البورج ...البورج يتحول إلى محلات بيع وعندما يحل المساء تجد عربيات تجرها الخيول لها عوارض عليها رسوم: مدينة او قصر او طريق ويحل أصحاب العربات خيولهم وتتحول العربة إلى مسرح... لم يكن لهذا المسرح مؤلف ولا نص بل ارتجال كامل يبدأ بنفس الطريقة التي تحدث في الموالد عندنا اى " القافية " ثم " اشمعنى " فيصعد ممثل على المنصة التي كانت عربة ويبدأ بالميم mime اى محاكاة إحدى الشخصيات التي يجثم ظلها على الفلاحين ليزهق أنفسهم : جابى الضرائب ...القس الصارم ... الاقطاعى .. الحاكم المستبد ... الجلاد الخ...ويقوم رسم الشخصيات على التضخيم الكاريكاتوري ، جابى الضرائب مثلا قد أصيب بالتخمة فيضع الممثل كرشا يبطن فوق البطن ويرتدى سروالا منتفخا ويسير وهو بيضرب بعصاه فيضع طفلا لافته على ظهره دون ان يفطن هو إلى وجود الطفل واللافتة كتب عليها "حمار" مثلا .. وبعدئذ يصعد عدد من الفلاحين كل منهم يدين جابى الضرائب وقد تشكل محكمة لإدانته والحكم عليه بالشنق.... مجرد أمثلة لكن لا ننسى أن من قلب هذه الكوميديا المرتجلة ولد مسرح موليير.

إلى هنا ونحن أمام فرجة شعبية ولسنا أمام شخصيات درامية رسمت قسماتها لسبب بسيط وهو في تلك القصور لم يكن هناك مفهوم الفرد فالكل قطيع انسانى جماعي كل ما يفعلونه هو النقورة parodie ثم الرقص الدائري الجماعي.

أما الرقص الفردي كالباليه أما رسم الشخصيات الدرامية فلا يبدأ الا مع صحوة الحرفيين والصناع إلى أنهم وحدهم الذين يملكون القدرة على استمرارية الحياة الاجتماعية وهو الطريق الذي سلكه من مهدوا الى الثورة الفرنسية خاصة مفهوم المجتمع ذوات حرة تترابط فيما بينها.

هذا هو فكر جان جاك روسو والذي سيصبح محرك الثورة الفرنسية ثم القاعدة لبنية " الدستور "....لست بصدد تاريخ المسرح الاوروبى بقدر ما أريد وضع علامات طريق في خط تطور المسرح على مستوى الثقافة الإنسانية ... مسرح العلبة وتقاطع المناجاة على جانب من جوانب خشبة المسرح تنبع كلها من مفهوم "البوح" لان ميلاد " الفردية " يتطلب الوعي بمكوناتها ولا يتأتى ألا بالغوص في مسارب باللاشعور.

ولنذكر تقسيم المسرحيات الكلاسيكية الى حوار يقطعه مونولوج طويل تتحدث فيه الشخصية عن صراعها الداخلي اى وقفة مونولوجtirade....بالاهتداء الى معالم الطريق هذه يمكننا ان نرتد إلى الوراء وقد نسأل : هل عرفت مسارح الحضارات القديمة مفهوم الفرد؟

وأضيف إلى هذا السؤال ... سؤال أخر : من له حق الكلمة ؟ من له حق الصعود على خشبة المسرح ليوجه حديثا إلى الأخر ؟

في بدايات المسرح الاغريقى مثلا لم يكن له حق الكلمة سوى الآلهة وبعدهم الملوك اما عامة الشعب فهم صوت جماعي جوقة أنشاد " كورال " وعندما يشتد صراع الملك ( وقبله ثم بعده البطل الاسطورى ) لابد ان ينتهي العرض كيف؟ من اعلي من السماء يهبط هرمس ، رسول الالهة ليحمل حكم المعبودات ولنلحظ باستمرار أهمية نسب الطول والعرض فى معمار المسرح فلابد ام يكون الجلوس فى المستوى الأسفل كي يتابعوا وعيونهم مرفوعة إلى أعلى وهو نفس الوضع الذي يتخذه الإنسان في مناجاة الخالق او التوسل إلى قوى الطبيعة ان تهبه سواء السبيل.

باستمرار هناك ما هو غامض ما هو معلق على أجنحة القدر ننتظر هبوطه كى تتطهر نفوسنا او لنصل الى قرار لابد من تقنية داخلية catharsis كما يقول ارستو عن وظيفة التراجيديا... على عكس ذلك كله كان المسرح الفرعوني.

لكن كلمة مسرح هنا كلمة عامة لا تحدد شيئا بعينه لان ما لدينا من وثائق مكتوبة ومن مشاهد لمسرحيات كاملة فى عديد من المقابر ومن شهادات لمسرحيين فراعنة أمثال وأيضا شهادات للعديد من المؤرخين الإغريق وعلى رأسهم يامبليكوس ، مؤلف كتاب : مسرح الأسرار لدى الفراعنة وبلوطارخه مؤلف كتاب : عن ايزيس واوزريس ثم مؤلفان كاملان عن مصر الفرعونية كتبهما الفيلسوف الاغريقى الكبير أفلاطون.

المسرح كمؤسسة الدولة

لنبدأ بالركيزة الأولى " المؤسسة" والمؤسسة هنا فرع من مؤسسة اكبر تضم المدارس او ( بيوت الحياة ) وتؤهل لدراسة الفلك والعلوم الطبيعية والكيمياء والموسيقى والحساب الخ .... وهى "المعبد".

المسرح كفرع من المؤسسة الام كان يقوم بالدور الذي تقوم به وسائل الأعلام مجتمعه في عصرنا الحالي فهو يعرض امثلة درامية لما ينبغي ان يكون عليه الولاء للحاكم وهو مسرح سياسي ثم هو مسرح تعليمي لان الأسطورة بمفهوم ذلك العصر تعنى تاريخ الإسلاف وليس بمفهومها الحالي كأشياء وراء الطبيعة في طي المجهول بل ان الجذع للكلمة يطابق المصطلح العربي فإستوريا باللاتينية تعنى التاريخ أما mythis(ميثث) الإغريقية فتعنى بطولات الأسلاف وأصول القبائل وعلوم الأولين وسواء كنا أمام الجذر اللاتيني او اليوناني فالمعنى واحد هنا وهناك...فالأسطورة مثل يضرب للأجيال الجديدة والمقبلة ليستخرجوا دروسا من تجارب اسلافهم.

هذا الجانب من موضوعاتنا thematiques المسرح الفرعوني أما الجانب الثاني فهو الجانب السياسي فدعم السلطة الحاكمة على أساس أنها "المنفذ" على الأرض لمخطط الأرباب وإعادة انتخاب الملك بتتويج جديد كما في عيد أو مهرجان " حب – سيد " heb- sed هو أيضا مطلب سياسي ، ومن النصوص التي وصلتنا ذلك النص المدون بمعبد حتشبسوت لكي تتبوأ عرش بلادها لابد من ركيزة عقائدية تبرر حكم امرأة وربما مستشارها ومهندس مجمع معابدها " سن – جم " هو الذي أوحى أليها بأن تشيع أسطورة فحواها إن الإله أمون وقع في غرامها ولنر سويا كيف اعد نص درامي يسرد تلك الأسطورة.

البداية ، هي انشاد منفرد يقوم بدور الراوي :

المنشد أمون

ملك إلهة طيبة

لقد أرسل توت رسول الإلهة إلى معبد كرنك كي يجد جميلة الجميلات التي أغرته بفتنتها ( يلي ذلك مشهد دخول توت إلى حجرة العرش الالهى )

توت هذه الشابة التي حدثتني عنها تلك التي تشع هالتها وسط النبيلات.

أنها ابنة القمر " اهموس" أنها أجمل بنات البلد كلها وهى الزوجة الكبرى لجلالة الملك تحتمس الأول وجلالته شارب في عنفوان الصبي.

أمون: أذن قدني أليها

( توت يصحب أمون إلى حيث تجلس الشابة)

( وتتلاشى اللوحة الأولى لتظهر لوحة ثانية اتخذ فيها أمون هيئة الزوج ويتجه توت إلى المشاهدين ليحكى ما يحدث)

توت: وعندئذ جاء أمون ذلك الإله الشامخ سيد عرش البلدين جاء وقد اتخذ هيئة زوجها.

وبينما هي نائمة في ابهه قصرها أيقظها عطر الإله وارتسمت على وجهها ابتسامة وهى تبصر بجلالته وذاب حبها في قلبه ولحظة إن اقترب منها استطاعت ان تراه في هيئة الإلهة وغمرتها سعادة بالغة وهى تتأمل جماله وتغلغل حبه فى جسدها وفاض عطر الإله ليغمر القصر كله.

ومنحها جلالته كل ما ترغب فيه ، منحها فرحة رؤيته واحتضنها.

( وتختفي اللوحة الثانية لتجيء اللوحة ثالثة نرى فيها حتشبسوت ممسكة بمبخرة وتضمخ بالعطر جسد جلالته ونعود إلى المنشد ليحدثنا بما يدور فى قاعة الاحتفالات)

المنشد: هاهي جلالتها تقوم بالعمل بيديها بأنقى أنواع الريحان تضمخ جسده وعطره يختلط بعطور مدينة بونت ، مدثر جسده بالذهب ، الذهب يدثر جسده وهاهو يتألق كما تتألق النجوم في قاعة الاحتفالات بكل أعياد البلاد.

على هذا النحو يعمل العرض على محور تحتمس الثالث من ذاكرة المشاهدين فلا يروا سوى هذه الملكة حاكما ونسوا ابن زوجها الملك فالأخير ابن محظية بينما حتشبسوت تشيع حتمية حكمها بناء على وحى من أمون واختيار الإله لها لتكون زوجته وعندئذ لا يستطيع اى إنسان ان يتفوه بكلمه احتجاج او اعتراض لان رفض ما يوحى به أمون هو الكفر بعينه.

الأوبرا – الباليه

في الحضارة القديمة لم يكتب الشعر لكى يرقد على صفحات كتاب بل ليغنى في ساحات المدن نلتقى بمنشد الملاحم او بثنائي يمثل بالميم ، بالرقص ، وبالغناء قصة من قصص الحب ، ولو تتبعنا تطور هذه الاشكال الإيقاعية – الصوتية علينا ان نبدأ بأولى الأسرات ودليلنا هو ما تركه لنا اسلافنا مرسوما أو مجسدا بالحفر الغائر على جدران المقابر والمعابد.

وحسب عقائد تلك العصور عندما يبعث الميت لا يستعيد ذاكرته على الفور وعليه أن يتصفح ما كان يحدث في دنياه الحياة اليومية مع الحرفيين أو الفلاحين أو البحارة ثم حياة المرح واللهو حيث تقاد المآدب وتحيط الراقصات بالمدعوين.

ألان المدهش حقا هو اننا نجد في مقابر الأسرات الأولى كما في مقابر الدولة الوسطى كما في فترة الازدهار الكبرى للفنون فى عهد الأسرات السابعة عشر والثامنة عشر خاصة في عهد إمبراطورية الرعامسة ، أقول المدهش هو أننا نجد لوحات كاملة لاستعراضات اوبراليه – راقصة هي ما نصنفه حديثا تحت اسم أوبرا – باليه.

لنبدأ بأقدم هذه اللوحات تلك التي نجدها في مقبرة الكاتب الملكي " ايدو " بالجيزة في عهد الأسرة السادسة، اللوحة مقسمة حسب تدرج الحركة الدرامية – الإيقاعية فنحن نرى أربعة راقصين يدورون ونواصل الجمل الكوريجرافية ، هى نزول الساق وهى تضرب الأرض ثم تعود إلى الارتفاع بسلاسة يحفظ توازنها مد الزراعين إلى الأمام وقبضة اليد المفتوحة إلى الامام ثم ترتفع الأيد إلى مستوى الرأس لتعود القدمان إلى ضرب الأرض موقعة نهاية جميلة.

في الطرف المقابل ، راقصات اربع يتقدمن ثم تقاطع كل راقصة زميلتها أمامها وتتشابكا كي تقوم كل منهن بما نسميه رفع الساق إلى الخلف leve arriere  مع نصف دورة demi- tour  ونلحظ قصر الجوب وانثناء البطن يكاد يبدو عاريا للتحرر من كل ما يعيق الحركة فى المستوى الثاني من اللوحة واللوحات مقسمة إلى أقسام بالعرض وفى كل مستطيل مجموعة متجانسة من الفنانين فى هذا المستوى الثاني نرى ثلاث مغنيات ينشدن مع التصفيق بالايدى لترقيم تواصل المقاطع الغنائية وإزاء المغنيات ضابطات لإيقاع ( وحاليا نستخدم الطبلة الصغيرة أو الدرابوكا او التار بشخاليله لضبط الإيقاع )

فى الفترة التى كان فيها الاب اتيين دريتون رئيسا لمتحف القاهرة كانت تتراكم بسرعة مذهلة كشوف فى غاية الأهمية هي ما يسمى شقفات أو ما يسمى استراكا وهى قطع من الطوب اللبن المجفف تحت أشعة الشمس ( كصناعة القلل الفخار حاليا ) وعلى هذه الشقفات اغان لم يتوقع احد أنها كتبت منذ بضع ألاف من السنين فهي من حيث الصور والمشاعر والإيقاع تكاد تماثل اغانى ايديت بياف.

سنقابل : عندما تأخذني بين ذراعيك في أغنية فرعونية وسنجد نفس الصورة في أغنية ايديت الشهيرة quand tume pzends entze tes bzas .

كان لابد من عميلة تصنيف لموضوعات هذه الاغانى فقام بهذا العمل البروفيسور ج. دارسي ووصفت بكتالوج المتحف المصري تحت عنوان " اوستراكا" المذهل حقا سدرة الاغانى المفردة solo فأغلب الاوستراك تحمل مشاهد ماطفية تارة يغنيها ثنائي فتى وفتاة والاثنان يحملان الأرب المحمول أو الجيتار الفرعوني وعندما ينشد الفتى مقطعا تعزف الفتاة وتحكى بالرقص الجو الطبيعي والجو النفسي المحيط بالمشهد.

ولنأخذ على سبيل المثال هذه المشاهد الغنائية التي كتبت في الكتالوج تحت عنوان " عندما انزل الماء " بالطبع دارس هو الذي أعطاها هذا العنوان.

** هذا وسوف تنشر المشاهد في الجزء الثاني من المقال.

 

بقلم/ د. صبحى شفيق

المصدر/ جريدة مسرحنا العدد 175

15 نوفمبر 2010

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,254,150