بالإمكان تسمية هذا البحث مقتربا إلي طريقة نقدية في دراسة تجسيد الأسطورة الفرعونية في الباليه المعاصر. هذا المقترب يؤلف تجربة في النقد إنه من خلال الآراء المتواترة من وجهات نظر متباينة يقدم تعاريف ويوضح أشكالا لطريقة جديدة نسبياً في معالجة الباليه هي في جملتها تركيز علي الأسطورة والرمز. طبعا ليس هناك من مدرسة متميزة للأسطورة والرمز ولذا فإن علينا أن نقر منذ البداية بأن معاني الكلمات الاساسية نفسها في مثل هذا النقد متعددة ومتباينة فالأسطورة تشير أحياناً إلى أقاصيص الأقدمين وأحياناً إلى أشكال الإيمان المختلفة أو أم لها وظيفة الفن الخلاق أو الفن الرمزى.

الأسطورة تشمل النمط الأعلى ولكنها تتماشى أيضاً مع الليجورة. وعلى غرار ذلك أيضاً نجد أن معنى الرمز يتداخل أحياناً مع معانى مصطلحات اخرى مثلا قد يقال أن الرمز قد يربط بين عنصرين أو أكثر ولكن الكناية والأسطورة تفعلان ذلك أيضاً غير أن فى جوانب هذا البحث مهما كانت المصطلحات عناصر معينة متماسكة ومنطقية  فالتأكيد فيها قبل كل شىء هو على ازدواجية الفن أى أن المعطى فى اللغة والشكل ما هو إلا تجسيد لشىء أكثر لا ينص عليه كلياً أو لا يمكن أن ينص عليه فإذا جاز لنا أن نبسط التعريف، قلنا أن الرمز يحوى إشارة حرفية وكذلك مدى، أعظم منها بكثير من المعنى والتضمين والعاطفة، كلها غير مدون.

والرمز كثيراً ما يندمج فى النمط الأعلى أو التعبير عن موتيفات غريزية كونية مختلفة أو انساق من السلوك والمعتقد الإنسانى تأتى مشحونة بزخم عاطفى بدائى.والأسطورة، التقليدية منها والمختلفة، هى الشكل القصصى لتلك الرموز النمطية العليا التي تؤدي معا إلي كشف متماسك المعني عما يعرفه الإنسان وتؤمن به الأسطورة في إزدواجيتها رؤيا مهيأة: إنها توجد بلغة ماهو أعمق من كل شيء في ينابيع الشعور الإنساني وإدراكه وفي البحث التالي كله سنري أن البحث النقدي هو عن ذلك الأمر الي رغم عدم تعيينه يوجد في ومن خلالها ويسبغ علي العمل الفني شكله الحي.

وفي هذا النقد ثانياً تأكيد علي الفعل الخلاق وبما أن الناقد هنا دائب علي أكتشاف المعني والتصميم الداخلي عن طريق القوي الأولية في الفعل الإنساني فقد يجد نفسه مشاركاً أكبر في تشكيل رؤيا الفنان هذه المشاركة تفترض ان الفن والنقد كليهما في "عملية مستمرة من الأبداع" ليس هناك من شقة بين قوة تكوين الشكل الخلاقة والقوة النقدية علي رؤية العالم الذي ينتمي إليه : "الرؤيا تلهم الفعل والفعل يحقق الرؤيا إنها "الحركة الخلاقة" في الأشكال الفنية كلها.

إن في الفنون كلها طاقة علي التغيير والتجديد ومن واجبات النقد إدراك "المعني المتجدد دوما لكل عمل" كما أنه يري أن العمل الفني هو الذي يحرك فينا قوي الإدراك تلك التي عن طريقها نعي عالمنا ونصنعه في آن واحد وهكذا فإن التأمل في الهيكل الرمزي أو النمطي الأعلي أو الفعل الأسطوري في الفن قد يرفع بوجه خاص الحواجز التي تقوم بين النقد والمبدع.

في البحث التالي سنري ناقدة تستقصي التفسير والتأويل كلا علي غراره من طريق مفهومي الأسطورة والرمز وتوضح بذلك حيوية وخطورة العملية النقدية حين تتوخي هذا الطريق في التغلغل إلي كونه العمل الفني.

من هنا تمثل الأسطورة كما هو معروف مصدراً من المصادر الملهمة لفن الباليه في الباليهات العديدة بدءا من "باليه الملكة الكوميدي".

فقد عرض "باليه الملكة الكوميدي" بفندق"بوريون" في باريس بفرنسا في العام 1581.وسمي الباليه باسم"الكوميدي" وكانت تلك الكلمة تعني في ذلك الوقت صفه "درامي" وكان الباليه دراميا لأن أساس موضوعه مقتبس من الدب اليوناني "لهوميروس" واما الموسيقي فكانت "لدي بوليووسالموني" والشعر"للاشينييه" والإخراج (لبلنزار دي بوجواير) وقد اشترك في أداءه رجال من البلاط وكان العرض يشمل الكلمة والموسيقي والغناء والمشاهد الدرامية وهو باليه"تسيرتسيا" وقد اختار (بالتازار دي بوجوايو) موضوعا أسطوريا يدور حول البطلة التي تؤدي دور الساحرة تسيرتسيا.

ثم قدم "يوري جريجروفيتش" باليه "أسطورة حب" في العام 1961 في ليننجراد ثم علي مسرح البولشوي في العام 1965جنبا إلي جنب مع موسيقي عارف ميليكوف كما عرضته فرقة نوفو سيربك واشترك بعض من طلبة معهد الباليه في أداء العرض. ويتكون الباليه من ثلاثة فصول ويدور حول إحدي الأساطير الشرقية القديمة التي تتحدث عن ماء ساحر يبعث الحياة وهي قصة فرحات الذي استطاع ان يثقب الجبل بمعوله الحديدي لكي يحمل الماء إلي الناس ويصبح بذلك رمزاً للحب الكبير الذي يتعالي علي المصالح الشخصية وباليه جيزيل الذي قدم لأول مرة عام 1841.

يبين ذلك بوضوح الصلة الوثيقة بين الأسطورة من جهة وفن الباليه من جهة أخري " فالأسطورة هي محاولة لفهم الكون بظواهره المتعددة وهي نتاج وليد الخيال" وقد تعبر الأسطورة عن قصة أو عن موضوع من خلال شخصيات ومواقف خيالية نخرج منها بحكمه ما "كما تستخدم كلمة أسطورة أيضا للتعبير عن فكرة ما أو لتصوير حال البشرية في ماضي أو مستقبل خيالي تصويراً مثالياً".

وللأسطورة الفرعونية رونق خاص لما لهذه الحضارة من رونق وغموض يجذب إليها المبدعون من شتي التخصصات.

وحفلت الحضارة الفرعونية بالكثيرمن التقدم في شتي أنواع المعرفة في مجالات العلوم والآدب العديدة.

وتشهد علي ذلك البرديات التي وجدت في العديد من المقابر والمعابد حيث كان القدماء يدونون أدق تفاصيل حياتهم.

وعلي الرغم من اجتهاد العلماء في فك شفرة رموز تلك البرديات والرسومات إلا أن هناك العديد من الأسرار التي لم تكتشف حتي الآن مثل أسرار التحنيط والتي تعتبر أكبر دليل علي عظمة وتقدم الحضارة الفرعونية والتي تعتبر من أعرق الحضارات علي وجه الأرض إن لم تكن أعرقها علي الأطلاق.

ويعتبر القصص الفرعوني أرضا خصبة تنبت فيها شتي أنواع الفنون والآداب حتي الهمت العديد من الأدباء والفنانين وكانت حافزا لهم علي تجسيد العديد من تلك القصص واستلهامها في العديد من الأعمال الأدبية وفي مجال الفنون شهد علي سبيل المثال فن النحت علي عظمة الحضارة الفرعونية حيث امتد التاثر بتلك الأعمال إلي نحاتي القرن العشرين عامة والنحات محمود مختار خاصة. ويظهر في اعماله التأثر الواضح بالحضارة الفرعونية مثل تمثال نهضة مصر والذي يعتبر أعظم مثال علي نسب وأسس النحت عند الفراعنة.

وفي المجال الموسيقي شهدت جدران المعابد العديد من الرسومات التي توضح الآلات الموسيقية التي استخدمها الفراعنة القدماء والتي اقتبسها الغرب فيما بعد واعتمد عليها في تطوير الآلات الموسيقية الغربية المعروفة لدينا الآن مثل آلة الهارب وبعض آلات النفخ الخشبية وآلات الإيقاع مثل الدف الذي مازال يستخدم حتي الآن.

أما في مجال الرقص فقد حفلت العديد من جدران المعابد بشتي أنواع الأشكال الحركية التي تكونت منها العديد من الرقصات في الآسر الفرعونية المتعددة:

"احتل الرقص مكانة كبيرة في حياة المصريين القدماء ولعب دوراً مهما في مجتمعهم وهم لم يقبلوا عليه رغبة في اللهو أو التسلية أو الترفيه عن النفس فحسب بل اتخذوا منه سبيلاً لعبادة الخالق وامتنانهم بما انعم الله عليهم من نعم.كما لجئوا إليه عند وفاة عزيز لديهم ابتغاء إدخال السرور علي قلب المتوفي وطرد الأرواح الشريرة التي قد تؤذيه".

وظل الرقص يحتل مكانة إجتماعية عالية في شتي مراحل التاريخ الفرعوني ففي الدولة القديمة رقص الرجال أيام الحصاد واعتاد الفلاحون الرقص في أثناء الاحتفال بتقديم المحصول إلي المعبود "مين"رب مدينة فط وقد وصفت الكتب والمراجع القديمة العديدة للباحثين في التاريخ المصري القديم الرقص الفرعوني من خلال تحليل الأشكال الراقصة الواقعة علي جدران المعابد والاستعانة بالبرديات التي وصفت شتي أنواع الرقص والمناسبات التي كانت تؤدي فيها تلك الرقصات مثل كتاب"مصر والحياة المصرية في العصور القديمة" للكاتب أدولف أرمان" قدم وصفاً دقيقاً لما كان عليه رقص الرجال في أعياد الحصاد إبان الدولة القديمة وقد تجردوا من ملابسهم فيما عدا الأحزمة ويقدمون بحركات سريعة. وقد امسكوا في أيديهم عصيا يضربون بعضها بالبعض الأخر وهذا النوع من الرقص هو ما أخذ عنه رقص التحطيب في صعيد مصر فيما بعد.

وأما رقص النساء فقد نقلت النقوش داخل المعابد في الدولة القديمة الطابع الذي كان عليه رقص النساء في ذلك الوقت:

"تبدو تلك الرقصات في الرسوم القديمة هادئة ومهذبه إذ تخطو الراقصات الواحدة وراء الأخري خطوات بطيئة بحيث لا تكاد ترتفع أقدامهن عن الأرض مع تحريك أذرعهن ولم يكن الأمر يخلو من وقوف أخريات يصففن بالأيدي لضبط الإيقاع مع وقع أقدام الراقصات كما كان الجنك والمزمار يؤلفان المصاحبة الموسيقية في كثير من الأحيان".

وتنوع الرقص وأشكاله تبعاً لتنوع المناسبة.كما اختلفت الأزياء والحلي في الدولة الوسطي والحديثة عنها في الدولة القديمة فبينما صورت المعابد في الدولة القديمة رقصات أعياد الحصاد سجلت مقابر الأسرة الرابعة رقصات للرجال أكثر تعقيداً حيث تكونت من العديد من المراحل. وظهرت فيها بعض الحركات الأكثر صعوبة من ذي قبل مثل الوقوف علي قدم واحدة. " وتسجل لنا مقابر بني حسن بعضا من تلك اللوحات الفنية ففي واحدة صورت فتاتان تمثل احداهما الملك وتمثل الأخري النباتات والأعشاب وهي تتمايل مع الريح".

ويبين ذلك بوضوح انتقال الرقص في تلك المرحلة من مجرد تقديم الرقص للاحتفال بمناسبة معينة إلي اعتبار الرقص فناً يقدم فكرة أو مضموناً درامياً ولم يظهر الرقص الاحترافي إلا إبان الدولة الحديثة:

"أضحت الراقصات في ذلك العصر أكثر رشاقة أصبحت الراقصات المحترفات في ذلك العصر يرقصن في المآدب وفي الوقت نفسه يضبطن الأيقاع بقرع الدفوف ودق الصنوج في حركة سريعة".

وقد زخرت العديد من المراجع العلمية القديمة بالعديد من الصور المنقولة عن النقوش التي تعبر عن فن الرقص في مراحله المختلفة في الحضارة الفرعونية مثل كتاب "النقوش في الدواة القديمة" للكاتبة لويزا كلبسي الذي احتوي علي مجموعة كاملة من صور الرقص في الدولتين القديمة والوسطي.

وكما كان للحضارة الفرعونية دور في تحفيز الباحثين علي الوصول إلي أدق الأسرار في شتي مجالات الفنون والعلوم فقد كان للأسطورة الفرعونية دور مهم في الهام العديد من الفنانين بالأعمال الفنية التي تجسد تلك الأسطورة.

وللأسطورة في الحضارة الفرعونية أهمية لا تقل عن أهمية المقدسات ذاتها وعندما يجيء ذكر الأسطورة في الحضارة الفرعونية فانه ينبغي أن نشير إلي الأسطورة الأشهرعلي الأطلاق في الحضارة الفرعونية القديمة وهي أسطورة إيزيس واوزيريس لما لهذه الأسطورة من قداسة وأهمية في التاريخ الفرعوني القديم "اسطورة ايزيس كغيرها من الأساطير القديمة تثير حولها جدلاً اذ يرجع أصلها إلي ما يقرب من 7500ق.م وتناولتها العديد من المراجع العلمية واختلفت مصادرها ففي كتاب الرقص المصري القديم للكاتبة ايرينا ليكسوفا ورد ما يلي:

" انها قصة بوجه عام من القصص الذي أحبها المصريون وأمنوا به وهي علي الرغم مما يكسوها من خيال وتصوير فأنها توضح لنا الكثير من معتقدات المصريين القدماء وتتلخص القصة في أن آله الأرض وآله السماء كانا زوجين أنجبا من البنيين اثنين هما اوزيريس وست ومن البنات اثنتين هما ايزيس ونفتيس. وأما اوزيريس فقد تزوج ايزيس ونودي به ملكا علي الأرض فحكم بالعدل وأحبه الناس.أما ست فقد تزوج من أخته نفتيس وكان شريراً امتلأ قلبه حسداً وحقداً فسولت له نفسه أن يدبر مؤامرة لقتل أخته وتمكن المتآمرون من وضع اوزيريس في تابوت من الذهب وألقوه في النيل وساقه التيار للبحر المتوسط وحملته أمواج البحر إلي فينيقيا"

وفي كتاب الشعب للباحث عبد القادر حمزة:

" إن الصندوق وصل إلي ثغربيبلوس علي سواحل سوريا ووقفت به الأمواج عند جزع شجرة فنمت حتي طوت الصندوق في جوفها ورآها بعد ذلك ملك المدينة فأعجبته فنزعت من الأرض وأقيم جزعها عموداً في قصره".

ولما علمت زوجته إيزيس حزنت حزناإ شديداً وأخذت تبحث عن جسد زوجها حتي وصلت إلي ببلوس وجلست بالقرب من ينبوع ماء تبكي ثم مرت بها مجموعة من الجواري في خدمة الملكة فحيتهن برفق وعضت عليهن أن تضفر لهن شعورهن وان يمسح أجسادهن بمثل الرائحة الذكية التي تفوح منها. ولما فعلت عاد الجواري وسألتهن الملكة فأنباتها بنبأ تلك المرأة التي ضفرت شعرهن وطيبتهن فاستقدمتها الملكة وجعلتها مربية لطفلها.

ولما اهتدت إيزيس إلي مكان جسد زوجها حملته معها إلي مصر حيث خبأته في أحراش الدلتا ولكن ست عثر عليه ومزقه وألقي بأجزائه في أقاليم مصر المختلفة واستقر الرأس في أبيدوس ولكن زوجته إيزيس وابنه حورس انتقما من القاتل.وجمعا جثمانه ودفنوه في مكان واحد ليحج إليه الناس.وتم استرداد عرش البلاد .ومن هنا نشأت العقيدة المسماة باسم "الأوزيريسية"، أي "عبادة أوزيريس".

وطبقاً لتفسير كتاب الشعب لهذه العقيدة فان عبادة أويريس أساسها الأول أن كل إنسان مسئول بعد الموت عن أعماله في الدنيا أمام محمكة إلهية يتولي القضاء فيه أوزيريس نفسه ويساعده فيها توت وآنوبيس وحوريس ومعات واثنان وأربعون قاضيا هم بعدد أقاليم مصر في ذلك الوقت.فإذا حكمت المحكمة بأنه أساء في حياته فجزاءه أن يفترسه الوحش أو أن يلقي في النار. وقد راجت هذه العقيدة في عصرى الدولة الوسطي والحديثة. وأصبحت المعتقدات والطقوس الخاصة بتلك الديانة تقدم في شكل مسرحية تمثيلية أعادوا فيها تصوير أوزيريس وبعثته وانتصاره".

وسميت تلك المسرحية بمسرحية الآلام " وهي التي تستعيد فيها آلام أوزيريس. وتؤكد رجعته إلي الحياة من الأحداث الموسمية التي تمثل سنويا في أبو حيد وعين شمس وكل مدينة مصرية. وتبدأ بموكب يمثل انتصارات اوزيريس وقت حكمه لمصر وتسبق الموكب الشارات الحربية للمعبود (اوقويس) وهو الإله الذي يرمز له باين آوي. وكان من بين الطقوس أن تكون ثمة جماعة من الناس متحفزين للحيلولة دون سير الإله وكأنهم أعداء. وكانت عاقبتهم الضرب المبرح فإذا ما دخل الركب معبد أبيدوس الكبير متنصراً أغلقت الأبواب وأقيمت في قدس الأقداس شعائر المسرحية الدينية. والفكرة الأولي في تلك المسرحية هى مقتل أوزيريس في قصره علي يد أخيه ست الذي يلقي بجثته بعد ذلك في النيل. وقد كان يقدم هذا الجزء من المسرحية في مكان مغلق ومقصوراً علي الكهنة ورجال الدين. ثم يقدم الجزء التالي علناً أمام الحاضرين.

عندما تعثر إيزيس علي جثة أوزيريس وتقوم بدفنها في حفل مهيب وتقوم إيزيس بالبحث عن ابنها للثأر لأبيه وتنشب معركة بينه وبين ست ويهزمه هزيمة منكرة ترد بعدها الروح ثانية في أوزيريس ليبدأ حياة جديدة يودها السلام.

وقد أثرت الأسطورة في العديد من ثقافات الشعوب الذين قدموها ضمن أعمالهم الفنية مثل اليونانيين "حيث كان اليونانيون ينظرون إلي مصر وديانتها بعين الدهشة والإكبار ويرون في مدارسها ينابيع الحكمة ويجدون من الخير لهم ولبلادهم أن يربطوا معبوداتهم بمعبوداتها وأساطيرهم بأساطيرهم. والأسطورة بشكل عام يدور محورها حول الصراع بين الخير والشر إلا...."إن الباحث في الأساطير يواجه منذ البداية موقفا قد يبدو متناقضا لأول وهلة. فهو يجد من ناحية إن الأسطورة قد تتضمن إحداثا وأفعالا متباينة بحيث لا يكاد يستبين فيها أى نوع من المنطق أو حتي الأستمرار والأطراد. كما أن شخصيات الأسطورة قد تتشكل بأشكال كثيرة. وتجمع بين خصائص وصفات متباينة قد تتراوح بين الخير والشر".

ويتيح هذا التباين المجال للمبدع للتعبير عن رؤيته المتفردة وهو ما يجعل هناك اختلافا في الرؤية الفنية والتناول والعرض للفكرة الواحدة بأكثر من أسلوب.

وفي الباليه المعاصر تم تقديم باليه أوزيريس المقتبس من الأسطورة الفرعونية المعروفة والتي يدور محورها الأساسي حول الصراع الأبدي بين الخير والشر. أخرجت الفنانة الألمانية جونديل ابلينوس هذا العمل في العام 1981 لأول مرة في القاهرة جنبا إلي جنب مع موسيقي جمال عبد الرحيم إلا انه لم يلق نجاحاً حيث استمدت الفنانة الألمانية الحركة من النقوش الفرعونية علي جدران المعابد.وأخذت الحركة طابع التماثيل المتحركة. كما لم يساعد التصميم الحركي علي نقل المفهوم الدرامي للباليه.

وفي العام 1984 أعاد عبد المنعم كامل تجربة المؤلف الموسيقي نفسه من جديد. وقدم أول مرة عام 1984 علي مسرح الجلاء. وتكون العمل من ثلاث لوحات. ثم أعيد مرة أخري عام1986 إخراج جديد يتكون من خمسة مشاهد نتناولها بالتحليل والدراسة في هذا البحث وذلك لتفرد هذه التجربة وأهميتها لعرض الباليه المعاصر حيث تم تجسيد الأسطورة الفرعونية من خلال العناصر المعروفة لعرض الباليه وذلك في خمسة مشاهد. يبدأ المشهد الأول بتعريف المخرج للشخصيات الرئيسية للعرض وهي الملك اوزيريس، وزوجته إيزيس، وشقيقه الملك ست، وزوجته تفتيس.

قسم المصمم الشخصيات الأربع إلي قسمين طبقا لطابع منهما فبينما التصميم الحركي لإيزيس واوزيريس يتسم بالهدوء والرقة الموصية بالسلام والوادعة تتسم حركات ست ونفيتس بالعدوانية التي تنبيء بالشر والخيانة من خلال تصميمات حركية سريعة وحادة.

المشهد الأول:

اعتمد علي رقصات ثنائية بين الشخصيات الرئيسية واعتمد الأداء لكل من شخصية إيزيس ونفيتس علي pointe بينما أفراد المجموعة من الراقصات علي Demi-pointe وفي نهاية المشهد تقوم الأربع شخصيات الرئيسية بأداء رقصة رباعية علي خلفية تشكيلات المجموعة المحيطة بايزيس تعبيراً عن مكانتها وحب الشعب لها.

وقد عبرت الموسيقي عن التناقض الواضح في الشخصيات من خلال تخصيص آلتي الهارب والفلوت للتعبير عن شخصية اوزيريس وايزيس في ألحان انسيابية ووديعة بينما عبرت آلات الإيقاع العالية عن شخصية ست ونفتيس من خلال ألحان عالية وحادة تتسم بالعنف.

أما الديكور فقد اعتمد علي خلفية ثابتة بينما لعبت الأضاءة دوراً مهماً في الإيحاء بالجو العام للمشهد من خلال الألوان المسلطة علي الستائر الخفية البيضاء حيث رسم عليها قرص الشمس تعبيرا عن جمال الطبيعة واهمية الشمس في الحضارة الفرعونية القديمة إلي جانب بعض الرسومات الفرعونية المجردة باللون الازرق الزهري حيث تكامل هذا اللون مع الزي المميز لايزيس و اوزيريس فقد كان هذا اللون مخصصا للملوك و الامراء في الحضارة الفرعونية .

ارتدي كلا من ست ونفتيس ملابس برتقالية عليها بعض النقوش الفرعونية المجردة وقد راعي مصمم الازياء تناسب الملابس مع الحركة بحيث لا تعوقها فجاءت ملابس الراقصين عبارة عن تنورة فرعونية قصيرة عليها حزام مزين بنقوش فرعونية ورباط فرعوني خفيف للراس اما الراقصات فكان زيهم عبارة عن فساتين قصيرة تحمل نفس لون ملابس ايزيس ومفتوحة من الجانبين لكي لا تعوق الحركة مع شعر مستعار فرعوني اسود ورباط فرعوني للراس لونه ذهبي.

المشهد الثاني:

كان المشهد الثاني عبارة عن لوحة سميت بذور الشر. ويبدأ المشهد برقصة ثنائية تجسد الصراع النفسي والنيات الشريرة بداخل ست ونفتيس والأتفاق علي تدبير مؤامرة للخلاص من اوزيريس. وقد عبر الراقصان في هذه اللوحة عن تلك الروح الشريرة من خلال الضغط المستمر بالقدمين علي الأرض واللفات والقفزات والرفعات المتتالية والتي تصل إلي الذروة من خلال الرقص المستمر في خطوط غير مستقيمة تلائم تلك الأنفعالات.

بينما أوحت الموسيقي بجو ينذر بالشر والترقب من طريق نغمة منخفضة من الوتريات.ويتصاعد اللحن نفسه في صورة هارمونية متنافرة ملائمة لهذا الجو.

المشهد الثالث:

أما المشهد الثالث فقد سمي بالمؤامرة. وفي هذا المشهد فأنه طبقاً للمعالجة المقدمة يتم قتل اوزيريس. ويوضح في صندوق ويلقي في النيل وقد تم استبدال التابوت في الباليه بشكل هرمي من الراقصين وكما هو معروف رمز للمقبرة عند قدماء المصريين واعتمد التصميم الحركي في هذا المشهد علي التشكيلات الجماعية للراقصين والراقصات في الشكل الهرمي في حركات موحدة للأيدي والأرجل. وتعطي إحساسا بالشر لتؤكد الأنطباع علي المؤامرة التي تحاك ضد اوزيريس والحركة الموحدة للملوك الأربعة كل منهم في اتجاه مخالف للأخر مما يدل علي انعدام الحوار بينهم وينتهي المشهد بالتصميم الحركي المكون من ايزيس واوزيريس بداخله وتزداد الحركات سرعة يحرض فيها  أعوانه علي اغتيال اوزيريس وينتهي المشهد بطعن اوزيريس داخل الهرم.

وتميزت الحركة في هذا المشهد بتكتلات الراقصين واشتراكهم جميعا في اداء الحركات الموحدة في اتجاه واحد في شكل تكوينات ضيقة ومتشابكة.وتميزت الموسيقي في هذا المشهد بتكرار النغمات من آله الفاجوط والكورنو مع آلات النقر الإيقاعية العالية والتي توحي بجو التوتر والمؤامرة.

المشهد الرابع:

يبدأ بعد ذلك المشهد الرابع في معسكر حورس وتظهر فيه ايزيس وهي تسترجع ذكري زوجها في رقصة منفردة ذات طابع حزين ثم ترفض الاستسلام وتبدأ مرحلة الصمود والتحدي من خلال تحفيز ابنها حورس وهو شخصية تظهر لأول مرة في الباليه وغالباً ما يؤديها نفس الراقص المؤدي لدور اوزيريس ويدور حوار راقص بين ايزيس وابنها حورس في رقصة ثنائية بينهما. تستحضر الرقصة روح زوجها ثم تفيق علي الواقع الأليم وتحدث ابنها علي كسب الأعوان والإعداد لقتالهم ويظهر هنا التصميم الحركي المتكرر. يبدأ حورس بالحركة على خلفية عالية فى عمق المسرح ليكرر الراقصين من أعوانه نفس التصميم مرة أخرى. ثم يشترك الجميع فى أداء نفس التصميم الحركى الذى يتكون من مجموعة من حركات القفز العالية ثم الانبطاح على الأرض لإعطاء الانطباع بالقوة ليدخل أعوان ست. وينقلب المسرح إلى ميدان للمعركة بين حورس وأعوانه من جانب وست وأعوانه فى الجانب الأخر ويؤدى الجميع نفس الحركات فى شكل متقابل ليقوم حورس بمبارزة ست. وينتهى المشهد بمقتله وانتصار حورس. وأعطت الإضاءة المتغيرة الإحساس للمشاهد بجو المشهد. بدأ المشهد بإضاءة صفراء ساطعة. وتركزت الإضاءة فى أثناء القتال على حورس وست من خلال بقعتين من الضوء الأحمر متحركتين مع إضاءة خافتة لباقى المسرح تتيح دخول وخروج المجموعة والتركيز على المبارزة التى دارت بين حورس وست. وتبدأ الموسيقى فى هذا المشهد بلحن حزين للآلات الوترية. ثم يتطور اللحن. ويتصاعد مع آلات النفخ النحاسية وآلات الإيقاع لتعبر عن النصر فى النهاية.

المشهد الخامس والختامى:

يعبر المشهد الخامس والختامى عن الاحتفال بالنصر. ويبدأ المشهد بشكل ثابت لحورس وايزيس مستوحى من أحد النقوش الفرعونية فى المعابد ليدخل الراقصون المشاركون فى الاحتفال بالنصر من جانب المسرح فى خطوات ثابتة ومتكررة التى يدخل الجميع إلى المسرح محيطين بحورس وايزيس لينتهى الباليه فى تشكيل هرمى مفتوح. وتقف ايزيس وحورس داخله مع إضاءة ساطعة ومبهرة. توحى بجو الفرح بالنصر. وعبرت عنه آلات النفخ النحاسية مع آلات أجراس الاحتفالات.

وفى النهاية فإن تجربة تجسيد الأسطورة الفرعونية ناجحة وجديرة بالتكرار خاصة أن التاريخ الفرعونى حافل بالقصص الأدبى والأساطير وهى مادة غنية وملهمة للفنانين للتشجيع على تقديم هذا النوع من الأعمال فى فن الباليه فى مصر.

مراجع البحث:

1.  ايرينا الكسوفا- الرقص المصرى القديم – ترجمة محمد جمال الدين مختار الدار المصرية للطباعة والنشر القاهرة 1961.

2.  تشلدون تشينى – تاريخ المسرح فى ثلاثة ألاف سنة – ترجمة درينى خشبة – وزارة الثقافة والإرشاد القومى – المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة – ص34.

3.  سامية أسعد- الأسطورة فى الأدب الفرنسى المعاصر- عالم الفكر- المجلد السادس عشر – العدد الثالث القاهرة 1985.

4.    عالم الفكر المجلد السادس – العدد الثالث- القاهرة 1985.

5.    عبد القادر حمزة – كتاب الشعب – مطبعة الشعب – القاهرة.

6.  د. علية عبد الرازق – من الأسطورة إلى فن الباليه – الفن المعاصر المجلد الثانى – العدد الأول – أكاديمية الفنون – القاهرة 1988.

7.  د. عليه عبد الرازق – وسائل الاستفادة بالتراث لخلق وتطوير الباليه المصرى – رسالة دكتوراه – أكاديمية الفنون – القاهرة 1987.

8.    نبيلة إبراهيم – إشكال التعبير فى الأدب الشعبى – دار نهضة مصر للطباعة والنشر – القاهرة 1974.

9.  د. يحيى عبد التواب – فن الباليه والأدب – مجلة فصول – المجلد الخامس العددد الثانى – الهيئة المصرية للكتاب – القاهرة 1985.

بقلم / د. نيفين الكيلانى المدرس بالمعهد العالى للنقد الفنى اكاديمية الفنون

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,265,653