إعلانات مطبوعة على طول الترام بعرباته الأربع، والإعلان نفسه يغطي واجهة متحف الفن حيث المعرض، كما تراه ملصقاً في كل شارع وركن وتقرأ عنه في كل مجلة وجريدة، ليس فقط في مدينة بازل السويسرية التي يقام فيها المعرض من منتصف مارس حتى نهاية يوليو، بل في باقي مدن هذا البلد الصغير الذي يحتضن، منذ عقود طويلة، الكثير من لوحات بيكاسو التي تشكِّل ركناً أساسياً في المجموعتين اللتين يمتلكهما هذا المتحف ومتحف بيالار.
بازل التي تبعد مسافة خمس ساعات بالقطار عن باريس التي عاش تحت أنوارها بيكاسو، هي من أكثر المدن التي احتفت بهذا الفنان؛ عرضاً واقتناءً ونقداً منذ عام 1914، أي منذ إرهاصاته الحداثية الأولى، إذ يضم هذا المعرض ستين لوحة وأكثر من مئة رسم وطباعة على الورق وبعض التماثيل والأعمال المركبة، تَمَّ تجميعها من مجموعات شخصية يمتلكها أفراد وتُعرض على الجمهور لأول مرة، إلى جانب مقتنيات المتحفين سالفَي الذكر. وقد روعي أن تغطي الأعمال المنتقاة كل المراحل الفنية التي مَرّ بها بيكاسو منذ بداياته وحتى قبيل وفاته 1973.
طابق كامل بالمتحف تم إخلاء محتوياته الدائمة لإعادة تجسيد صورة لرحلة الفنان الشهير. يدخل الزوار من مدخل واحد، يمشون في مسار تصاعدي حسب الترتيب الزمني، وأول ما تقع عليه عين الزائر لوحة ترجع إلى عام 1901 بعنوان «امرأة في غرفة الملابس» وهي لوحة تحيلنا إلى أسلوب الفنان تولوز لوتريك الذي تأثر به بيكاسو الشاب في بدايات إقامته في باريس. كما تحيلنا إلى شيء من أسلوب فان جوخ الذي ظل بيكاسو طوال عمره يحتفظ له بمكان خاص في نفسه. وفي لوحة أخرى ترجع إلى نفس السنة امرأة بائسة ووحيدة في ركن البار، وهذه اللوحة تعتبر فاتحة مرحلته (الزرقاء) التي خيم عليها الجو الدرامي وحسّ التعاطف مع الفقراء ومَنْ قَهَرتْهم قسوة الدنيا. ولعل اللوحة الآسرة المعروضة من بين أعمال هذه المرحلة هي الرسم الجرافيكي «الغذاء الفقير» 1904 التي تصوِّر زوجين نَحَتَ الفقر والتشرد تضاريسهما، جالسَين على طاولة وأمامهما صحن فارغ وقطعة خبز وزجاجة نبيذ.
يتجاور مع أعمال هذه المرحلة بضع لوحات كبيرة نسبياً من المرحلة المعروفة بـ(الوردية)، التي تناول فيها بيكاسو، بواقعية، تفاصيل الحياة اليومية البسيطة لأسرة من أهل السيرك. أكثر من عشرين لوحة ورسم تنتمي إلى التكعيبية، يقدمها المعرض بدءاً من تجاربه الأولى التي أنجزها مع صديقه جورج براك 1907 وفتّتا فيها المنظور إلى زوايا نظر متعددة وخطوط ومكعبات أطاحت بمركزية المنظر، وعجّلت بفَكّ الارتباط بين الواقع واللوحة لتستقل الأخيرة بذاتها كعالم تحكمه حسابات وقوانين ذاتية ومستقلة.
والواقع أن المراحل عند بيكاسو لم تحكمها التواريخ الصارمة بقدر ما كانت تتداخل فيما بينها بمرونة تارة وبمزاجه غير الثابت تارة أخرى؛ فبينما كان غارقاً في تكعيبيته، نجده قد عاد إلى التراث الإغريقي 1915 ينهل منه ويحاكيه، فيما عرف بمرحلته الكلاسيكية الجديدة حتى عام 1930، وفيها رسم وجوهاً ونماذج عارية تذكّر بأساليب رواد الكلاسيكية الفرنسية مثل جان وجست آنجر، كما رسم صوراً لأصدقائه وتجار الفن الذين تعامل معهم ودائرة الناس المهمين في حياته وهم في أزياء وأجواء تاريخية، وهي مرحلة تتداخل مع مرحلتيه التكعيبية والسريالية التي امتدت حتى الأربعينيات وكانت المرأة بطلها الأساسي.
يضم المعرض أيضاً، منحوتات وأعمالاً مركبة أنجزها بيكاسو في الخمسينيات، وفيها بدا ميله الواضح للتعامل مع أشياء ومخلفات موجودة اعتمد أساساً عليها في خلق مجسماته بدلاً من التعامل مع خامات النحت المألوفة من طين أو خشب أو حجر، وتقترب هذه المجسمات من التصوير أحياناً عبر التعامل بالتلوين والرسم عليها. وبجانب هذه المجسمات نماذج من سلسلة اللوحات التي اشتغل فيها بيكاسو على لوحات أسلافه من كبار المصورين، كـفيلاسكيز، وكوربيه، ومانيه… إلى أن دخل في منحنى شخصي حاد 1953 عندما تركته زوجته فرانسواز، وأخذت معها طفليهما، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تهجره امرأة، وقبلها بعام واحد كان لموت صديقه الشاعر بول إيلوار أثر نفسي كبير كاد يسحقه، فواكب هذا التغيير في المحيط والمزاج تغيُّرٌ في خط الفن، إذ عاد مجدداً إلى موضوع حميمي بالنسبة له: العلاقة بين الفنان والموديل، الرجل والمرأة، ليس ليعمل بالضرورة على الموديل ولكن بالأحرى كان رجوعاً، برؤية جديدة، إلى ما يشبه بيته الذي اشتغل عليه كثيراً سابقاً، ويجد فيه نفسه دائماً. أما نقطة التحول الأخيرة التي نلمس بصمتها الطفولية الناضجة على أعمال الفنان حتى رحيله، كانت ارتباطه بجاكلين المرأة الأخيرة في حياته عام 1961.
من إرهاصات نقلته الثورية رسم بيكاسو رسمَين تحت عنوان «فتيات افينيون» وهما عبارة عن (اسكتشَين) لا يخلوان من الركاكة واللامبالاة الفنية إلى درجة يخال المتمعِّن فيها بأنهما لا يليقان بالعرض في متحف كهذا ويُقدمان كأعمال فنية. كان بيكاسو قد أهدى هذين الإسكتشين لمدينة بازل، الأمر الذي قد يساعد ربما في فهم أو قراءة المسافة الواقعة بين بيكاسو الفنان وبيكاسو الشخص، بين المبدع واللامبالي. ألم تصل السذاجة وربما الغباء أو ربما الحسابات الشخصية الرخيصة ببيكاسو إلى حد أن يساند ديكتاتوراً دموياً كستالين؟ وإذا كان قد دسَّ أنفه في السياسة، لماذا تجاهل المذابح الفرنسية في الجزائر؟ لعل هذه الأسئلة تفيدنا في فهم بعض رسومات بيكاسو!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يوسف ليمود
المصدر / مجلة الدوحة ـ يونيه 2013 .
ساحة النقاش