هاتان القصاصتان يصح أن نعتبرهما قوسين بينهما مشوار حياة كامل لنجم الكوميديا الأشهر إسماعيل ياسين الذي تمر هذه الأيام الذكري الـ 38 لرحيله في الرابع والعشرين من مايو 1972 فقد بدأ إسماعيل ياسين رحلته بالشقاء وأنهاها كذلك، وبين البداية والنهاية كان هذا الرجل البسيط عنواناَ للبهجة والسعادة.

هذه ليلة من ليالي الكفاح الأولي في سبيل الوصول إلى المجد، مازلت أذكرها وكأنها وقعت بالأمس فقط، فهي تذكرني بأيام الفقر والبؤس التي كنت أعيش فيها عندما بدأت جهادي في ميدان الفن .. والقصة تبدأ هكذا في ليلة من ليالي الشتاء منذ عدة سنين مضت، كنت في القاهرة أبحث عن الطريق إلى الفن بعد أن قررت السير فيه، وكنت قد غادرت بلدتي السويس منذ زمن قريب، وكنت أقيم عند احد أقربائي ريثما يتيسر الحال وأستطيع أن أسكن بمفردي، وفي هذه الحالة كنت عائداَ منهوك القوي متعب الأعصاب فقد ظللت طوال اليوم أبحث عن عمل، ولكنني فشلت فكنت كمن أقفلت الأبواب في وجهه علي مصارعها، وأبت الأقدار إلا ان تحاربه حتي في الحصول علي لقمة العيش، وكنت احمل فوق رأسي هم الدنيا  ولست ادري ما الذي حدث بيني وبين قريبي هذا الذي أسكن عنده، فلم أشعر إلا بجدال ونقاش بيني وبينه.

ولم أطق صبراَ علي هذه المناقشات، فقررت في لحظة غضب أن أترك منزل قريبي وأسافر إلى السويس فتوجهت إلى المحطة وكان القطار قد وقف علي الرصيف، وفي احد صالونات الدرجة الثانية تمددت علي الكرسي كأي مسافر يحمل تذكرة سفر معه، ومع الأفكار والخيالات داعبني سلطان النوم فاستسلمت لدعابته ورحت في سبات عميق.

استيقظت علي هزات خفيفة وصوت يرن في أذني كأنه قصف الرعد يقول: " أصح يا فندي، تذاكر من فضلك كان كمساري القطار ونزلت علي كلمة تذاكر كأنها الصاعقة، فنهضت من نومي وقد ملأني الفلس شجاعة لا عهد لي بها وقلت في نفسي "هيه موته ولا اكتر" وتقدمت من الكمساري وقلت له: "أنا ما قطعتش تذكرة".

وهنا أخرج الكمساري من جيبه دفتراَ واخذ يكتب فيه ونظر إلى وقال : "طيب هات 80 قرش" فابتسمت وقلت : "بكل أسف أنا ما قطعتش تذكرة لأني ما عنديش فلوس" وقصصت عليه قصتي مع قريبي وإنني مضطر للسفر إلى السويس عند أهلي، وفي ختام حديثي معه قلت: " واديني قدامك اهو عاوز تسلمني للبوليس سلمني، وأنا مستعد أن أعطيك ثمن التذكرة عندما أصل إلى السويس " فنظر الكمساري وكأنه اقتنع بقصتي وخصوصاَ أنني كنت أرويها له بتأثر بالغ حتي يلين قلبه ثم قال: " طيب يا سيدي لما نشوف".

وحمدت الله علي أنه قد وضع الحنان في قلب الكمساري وإلا لكانت العاقبة وخيمة، وأطمأن قلبي فعدت لجلستي ومددت رجلي ووضعتها علي الكرسي المقابل في زهو وكبرياء وفي اول محطة وقف عليها القطار، أخرجت القرش اليتيم من جيبي واشتريت جريدة الصباح، وأخذت أقرأ وكأن شيئاَ لم يحدث، واقترب القطار من السويس وكانت الساعة قد قاربت الخامسة صباحاَ وإذا بالكمساري يقف خلفي والابتسامة لم تفارق شفتيه، ووقف القطار ونزلت وورائي الكمساري وأنا أفكر ماذا أفعل هل اجري ربما جري الرجل خلفي وتبقي مشكلة !.. وبينما أنا غارق لأذني في هذه الأفكار إذ بمعاون المحطة يقبل علي معانقاَ وهو يقول : "أهلاَ إسماعيل حمد الله علي السلامة ، كنت فين يا راجل غايب المدة دي كلها" وكأنني في هذه اللحظة عثرت علي كنز ثمين، وفي همس خفيف قلت له في أذنه :" ألحقني، أنا وقعت وأنت استلقيتني " فقال: "خير أي خدمة" وفي هذه اللحظة تدخل الكمساري قبل ان اشرح لصديقي المعاون القصة وقال:"صباح الخير يا حضرة المعاون، أنت تعرف إسماعيل ؟" فنظر إلى صديقي المعاون ثم اتجه بنظره إلى الكمساري وقال: "أيوه اعرفه كويس قوي، فيه حاجة" وكأن جردلاَ من الماء قد ألقي علي، فقد تصبب العرق بغزارة علي جبيني وكدت أسقط من طولي واستطرد الكمساري وقال: "أبداَ ده بس إسماعيل ده شخصية لطيفة قوي، دا هلكني من الضحك طول السكة" والتفت إلى مادا ذراعه وهو يقول:"فرصة سعيدة قوي يا سي إسماعيل، لازم نشوفك تاني في ظروف أسعد من دي، السلام عليكم، سلام عليكم يا حضرة المعاون".

وكدت اصعق، ما هذا الذي يقوله الكمساري ولم أصدق أنني قد تخلصت من هذا المأزق المحرج، وحمدت الله علي اننى لم أشرح القصة لصديقي المعاون، وحملت لفتي تحت إبطي وودعت المعاون، ولم امكث في السويس إلا 24 ساعة عدت بعدها إلى القاهرة، وبدأت قصتي مع الكفاح المرير حتي وصلت لما أنا فيه والحمد لله، ولست أتمني شيئاَ في حياتي إلا أن أقابل هذا الكمساري مرة أخري فإنني لم أره بعد هذه الحادثة ولعله يقرأ هذه السطور فيأتي لمقابلتي حتي أستطيع أن أرد له جميله. 

  

إسماعيل ياسين الفنان الذي أضحك الملايين 27 عاماَ يعيش محنة .. أرهقه العمل فمرض .. وكانت نتيجة ذلك إيقاف العمل بفرقته التي عملت 12 عاماَ متتالية دون إنقطاع.. ولكن هل فكرت الدولة لماذا أوقف العمل بالفرقة؟ هل حاولت وزارة الثقافة أو مؤسسة المسرح أن تمد يد المعونة لأعضاء الفرقة لمتابعة العمل؟

وفي لقاء مع الفنان إسماعيل ياسين قال:"كان شيئاَ خطيراَ جداَ أن أكون مسئولاَ عن إسعاد الناس ثم اتخلي عنهم في لحظات .. ولكن ليس هذا ذنبي لقد مرضت بسبب الإرهاق في العمل .. وقال لي الأطباء أن مرضي عبارة عن ماء علي الرئة ولكن الحقيقة غير ذلك، إذ كنت متعرضاَ للسل في الرئة .. وأخذ الله بيدي وشفيت .. ولكن مفاجأة أليمة واجهتها بعد خروجي من المستشفي، حيث وجدت فرقتي التي عملت 12 عاماَ فضت بسبب مرضي .. ولم تفكر الدولة في مساعدة الفرقة ولو بمبلغ ضئيل حتي لا تتوقف عن العمل .. وهذا يعتبر منتهي الجفاء والقسوة من ناحية وطني الذي خدمته.

وليس هذا فقط وإنما فوجئت أيضاَ بمصلحة الضرائب تطالبني بمبلغ 31 ألف جنية قيمة ضرائب من عام 1950 .. ودهشت عندما قرأت أسماء أفلام زعموا إنني مثلتها مع العلم أنني لم أسمع عنها قط.. فعلي سبيل المثال فيلم "إسماعيل ياسين في الجيش" كان مسجلاَ بأسم إسماعيل ياسين دفعة وفي أثناء تصوير هذا الفيلم اقترح تغيير أسم الفيلم إلى " إسماعيل ياسين في الجيش" والآن أنا مطالب بدفع ضريبة للأثنين في حين أنهما فيلم واحد فالإهمال الموجود في مصلحة الضرائب سيخرب بيوت الفنانين .. فقد حجز علي بيتي وسيارتي حتي الجنيهات القليلة التي أملكها في البنك حجز عليها .. لدرجة أنني في يوم العيد كنت أسير في الشارع دون أن أملك قرشاَ في جيبي.

وليس هذا فقط الذي أعاني منه، فإنني في هذه الفترة أعاني محنة نفسية لأنني عاطل بلا عمل.

لقد أعجبني فؤاد المهندس عندما حاول تكوين فرقة "الفنانين المتحدين" .. وأعجبني أكثر لأنه لم يعتبر نفسه صاحب فرقة وإنما اعتبر نفسه عضواَ يتقاضي أجراَ كغيره من الأعضاء فلو عرض علي أن أنضم للفرقة فسوف أوافق دون تردد .. علي أساس أن أعمل أمام فؤاد المهندس، لأنني من أشد المعجبين بهذا الفنان المكافح .. فهو فنان يستحق التقدير والإحترام.

والآن لا أدري ماذا أقول .. ولكنني أقول إنني لا أتكلم لنفسي وإنما أتكلم شفقة علي الزملاء والزميلات الذين أغلقت بيوتهم وأتمنى أن تحاول مؤسسة المسرح أن تعيد فرقتي إلى عملها، بأن تشرف عليها وترعاها وأعمل أنا فيها كأي عضو .. لأننى للأسف لا أملك شيئاَ أصرفه عليها .. فالفرقة لن تستطيع أن تعود إلى نشاطها مرة أخري إلا تحت رعاية المؤسسة لأن الفرقة تنقصها الإمكانيات المادية .. ولقد أرسلت أخيراَ خطاباَ إلى السيد الرئيس جمال عبد الناصر شرحت له الحالة بالتفصيل لأني تعبت جداَ من عدم العمل .

وفي آخر لقائي مع إسماعيل ياسين قال لي :

أرجو أن أعود للعمل .. فالعمل هو صحتي وحياتي، وألا يكون هناك حكم بالإعدام ضدي .. فأموت .. عاطلاَ .. بائساَ .. تملأ الدموع عيني بعد أن ملأت قلوب الناس بالأفراح.

  

بقلم / أشرف غريب.

المصدر /  عن مجلة الكواكب العدد3069

مايو 2010

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,202,275