يرى البعض أن الفولكلور هو الثقافة التي انتقلت مشافهة لتشكل ما يعرف بالتراث الشعبي، ثم أتى علماء الأنثروبولوجي بتعريفات توسع من نطاق الفولكلور ولا تجعله قاصراً على الآداب الشعبية فحسب، بل يمتد ليشمل الثقافة الشعبية وما تتضمنه من عادات وتقاليد وأعراف وطقوس حياتية، وهناك من عرف الفولكلور على أنه المحتوى الجمعي للرصيد المتراكم من تجارب النوع البشري متضمناً نتاج ما تعلمه الإنسان وما مارسه عبر العصور في شكل معرفة شعبية متوارثة تختلف عن المعرفة العلمية.

إن الفلكلور علم يعني بالنواحي المختلفة للثقافة التي يعتنقها العامة وتسير جنباً إلى جنب مع ثقافة متحضرة، وقد تنشأ ارتباطات فكرية بين الثقافتين فلا يمكن أن يكون هناك ثمة انفصال تام في ثقافة الشعب الواحد، ومجمل التعريفات الخاصة بالفلكلور يتعلق بمأثورات الطبقة الدنيا من الشعب، وهناك مجتمعات يظهر فيها التفاوت الطبقي بصورة واضحة من خلال تطبيق تلك التعريفات عليها.
إن الأدب الشعبي هو نموذج من نماذج التعبير عن المشاعر الإنسانية يعتمد على اللغة والنطق، ولذلك فإن ظهور هذا النوع من الآداب قد اقترن بظهور اللغة حتى قبل أن تخترع الكتابة، وكما أن اللغة نتاج اجتماعي فكذا الأدب الشعبي هو أحد المفرزات الاجتماعية للإنسان. " إن حياة الإنسان الاجتماعية وقدراته العضوية ومنها وجود جهاز صوتي متقدم مكنه من أن يعبر عن الأحداث والأشياء بأصوات مختلفة، وارتبطت لديه أصوات بعينها بأحداث محددة، ثم كونت الأصوات الكلمات لترمز للأشياء والأحداث، وهكذا تكون اللغات قد جاءت كنتاج اجتماعي" (جوردون تشايلد- 1924). إن العلاقة بين اللغة العامية الشعبية والأدب الشعبي هي علاقة أزلية، فلم يقتصر النشاط البشري على اختراع اللغة كوسيلة للتفاهم والتعبير والتخاطب بل استخدمها كأداة أساسية للتعبير عن نشاط المجتمع وقيمه واهتماماته الثقافية.

ويمتاز الأدب الشعبي بالعراقة والأصالة إذ أنه يحفظ التراث الخاص بشعب ومن خلاله يمكننا دراسة الجذور الفكرية والقيم الاجتماعية والروحية. كذلك فإن الأدب الشعبي يطلعنا على المضامين الفكرية للشعب وطرق معالجته لقضاياها الحياتية، ومن أهم ما يميز الأدب الشعبي هو "الجماعية"، فالأدب الشعبي في أصله يعبر عن حاجات نفسية واجتماعية وفكرية تتناقل من جيل إلى جيل معبرة عن نوع من التواصل المستمر على مستوى الجماعة التي تتفق ميولها وتتحد آمالها وآلامها. كما أن الأدب الشعبي تختفي فيه صفة المؤلف أو صاحبه فهو غالباً ما ينسب إلى مؤلف مجهول، والأدب الشعبي ليس جامداً صلباً أو ساكناً يفتقر إلى الحياة أو يصل إلى صورة ختامية يقال عندها أنه بلغ نهايته، وإنما هو متجدد مستمر متغير تتسلمه الأجيال جيلاً بعد جيل فتنهل منه وتضيف إليه، والأدب الشعبي لا يقتصر على تناول ناحية واحدة من مناحي الحياة ولا يتأثر بظروف معينة في طبيعتها بل تصوغه الأحداث والظروف على اختلاف أنواعها سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو أي ظروف أخرى

إن الوسيلة الأساسية لتداول الأدب الشعبي هي المشافهة و الاستماع وكلاهما يخضع لمتغيرات الإضافة أو الحذف أو التعديل في المحتوى ليتفق مع ظروف العصر، والأدب الشعبي ليس حكراً على فئة بعينها، ولا قاصر على التأريخ لطبقة معينة وإنما هو ملك شائع لجميع أفراد الشعب بمختلف توجهاتهم وسماتهم الثقافية.
وللأدب الشعبي أثر خاص في النفس ويضم العديد من مكونات الجمال التي تتضمنها الأحاسيس الشعبية التي تثير الفرد وتعرض له الاحتياجات العامة لجموع الشعب على اختلافها، والأدب الشعبي ليس مجرد تناول للأقاصيص والأساطير بل هو ديوان حي تتراكم فيه الخبرات لدى المجتمع وتترتب فيه معارفها و يؤرخ للحالة الشعورية الأولية التي تفرزها المتغيرات المختلفة في بيئة من يعايشوه.
قد يستنكر البعض من أهل اللغة واللسانيات مثل هذا النوع من الآداب والفنون لأسباب تتعلق بأصول اللغة والنحو إلا أن ما أورده ابن خلدون في مقدمته الشهيرة يدحض هذا الاستنكار ويرجعه إلى عدم قدرة البعض على تذوق هذا النوع من الآداب فيقول: " إنما يأتي ذلك من فقدان الملكة في لغتهم، فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إذا كان سليماً من الآفات في فطرته، وما للإعراب مدخل ف البلاغة

وإذا تناولنا الأدب الشعبي المصري لوجدنا أن له سمات تميزه من بينها استخدام اللفظ المنطوق والمزج بين الألفاظ لإعطاء نفس السجع الموسيقي أو المعنى الضمني كقول " أنا عاني.. ونفسي منعاني" أو قول " كنت أشوفه أعدي وأسلم.. واليوم أدي يا رب منه سلم " أو قول " أصله زي الأمر، وهواه علي أمر" فكلمة أمر في المثال الأخير هي نطق عامي لكلمة قمر

ويمتاز الأدب الشعبي المصري باعتماده على الإشارات والحكم والعبارات السائرة و الإسقاطات على الخلفيات والقناعات الدينية كمثل قول " أيوب لما صبر على حكمة ربنا سلم.." والأدب الشعبي المصري يتميز بميله الشديد نحو الطرافة والفكاهة والتورية إلا أن ذلك لا يعني أنه قاصر على الأدب الفكاهي فهناك من النصوص التراجيدية ما يدفع المتلقي إلى البكاء قسراً

. ومن سمات الأدب المصري أيضاً اعتماده على التراكيب اللفظية المسجوعة ذات الموسيقي الواضحة بحيث يسهل حفظ النص كقول:


" جرح في ضهر الحصان تحت السرج متداري

لا الحصان بيقول آه ولا الخيال داري"

، وهذا المثال يعرض لنا نموذجاً من استخدام التورية والاستعارة كما يعرض لنا أسلوب الأدب الشعبي المصري في اختصار قواعد الحكمة

ولعل من أروع نماذج الأدب الشعري المصري فن "الموال"، فالموال في الأدب الشعبي المصري يأتي ليجسد ملحمة خالدة تحكي عن تاريخ الشعب وهو معين الإبداع الشعبي الذي لا يعرف الجفاف، والموال المصري يعبر عن شعب مصر، وحياته واهتماماته خلال أجيال، والموال يعد من أول الصيغ التعبيرية في الأدب الشعبي المصري، وأكثرها استمرارية ورسوخاً بل ومنه يستلهم أصحاب الأنواع الأخرى من الفنون الشعبية والآداب أعمالهم ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك موال " أدهم الشرقاوي"

وفي هذا الموال تتجسد العديد من المكونات التي تعبر عن هوية الشعب المصري متمثلة في إيمان المصري بالقيم الدينية روحه الأبية الرافضة للاستعمار، وارتباط المصري بأرضه، وذكائه في استغلال طاقاته، وحكمته، وإصراره على قيم الخير ومحاربته لنماذج الشر، وواقعيته النابعة من التقييم الصادق لبيئته، ويظهر لنا أيضاً أهمية الرمز في الحياة المصرية وهي إحدى السمات الغالبة على أهل مصر، إضافة إلى اعتمادهم على أدوات التشبيه والاستعارة.

وتعتبر القصة الشعبية أو السيرة الشعبية نموذجاً آخر من نماذج الأدب الشعبي المصري، وهي فن أصيل قائم بزاته، ولعل أهم ما يميز السير الشعبية المصرية ارتباطها بالتاريخ العربي فبطل السيرة الشعبية لابد وأن يكون ذا صلة بالعرب، وهي تركز على القيم الدينية والأخلاقية وترتبط ارتباطا وثيقاً بالطبيعة سواء طبيعة الحياة أو طبيعة الإنسان. إن أهم ما يميز القصة الشعبية المصرية هو قدرتها على تناول الواقع بشكل أدبي معبر حتى أنها قادرة على أن تخلع أردية الحياة على الجماد، وتهب للحيوان المنطق واللسان، وهي عميقة في مضمونها لا تقف عند حد الظاهر بل تذهب إلى أعماق الباطن، والقصة الشعبية المصرية ليست نوعاً من أساطير الحكي والسرد أو تعتمد على الوهم والخيال ولكنها قد تستعين بالرمز لإسقاط الدلالات، وتعتبر السيرة الهلالية وسيرة عنترة إلياذة وأوديسا السير الشعبية المصرية وفيها تتجلى طبيعة السيرة الشعبية المصرية وتعكس مدى ارتباط مصر بالعروبة.

أما المثل الشعبي المصري فهو نوع آخر من خلاله يمكننا استقراء الهوية المصرية، فالمثل الشعبي المصري يعبر عن حياة المصري وقناعاته ويلخص فلسفاته وقيمه و يعرض البيئة المصرية على شكل لقطات قصيرة إلا أنها مركزة وتحمل الكثير والكثير من التفاصيل. وهناك أنواع أخرى من فنون الأدب الشعبي المصري ربما لا يسع المجال لكننا إننا إذا نظرنا للأدب الشعبي المصري بصوره المختلفة لوجدنا أنه عبر عن الإنسان المصري أوضح تعبير، وتناول حياته وقيمه وقناعاته وأفكاره ومبادئه. إن الأدب الشعبي المصري يؤرخ لحياة الإنسان الذي عاش على أرضها منذ عهد الفراعنة وحتى العصر الحديث من خلال أفكار وعبارات وصياغات وفنون لازالت حية نابضة ولعلنا نستطيع أن نلمس ذلك من خلال لغة الأدب الشعبي المصري والتي هي مزيج من مفردات اللغة الهيروغليفية والقبطية والعربية بل واللغات الأجنبية الأخرى.

إن المحتوى اللغوي للأدب الشعبي المصري وإن كان فيه مزج بين لغات متعددة إلا أنه يعبر عن أن المحتوى الثقافي المصري يمكنه استيعاب غيره من المحتويات اللغوية، لكننا وإن عرضنا إلى جوهر هذا الأدب وطرائقه لوجدنا أنه يعكس القيم والمبادئ التي قام عليها المجتمع المصري منذ نشأته الأولى.. تلك القيم التي بنيت على الإيمان، والقويم من الأخلاقيات وقيم الحق والجمال، ويعكس الفطرة السليمة لهذا الشعب وقدرته على التعامل مع كافة المتغيرات التي ألمت به.


ولعل أروع تصويرا لشخصية الأدب الشعبي المصري هو ما أورده شاعر الموال في قوله

أنا جمل صلب من قبل اللجام

غيرش الزمن هد حيلي و ع الحصى بأنام

ولبست توب الصفا جه ناقص البدن والكام

أنا جمل صلب لكن علتي الجمال

من يد واحد لواحد ملقيتش واحد يصون الود والجمال

وسبوني في التراب بعد الحمول العال

وصبحت عيان قوي يلعبوا بي العيال

بقلم / حسام الدين مصطفى المصدر/ موقع الملتقى
  • Currently 225/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
77 تصويتات / 17749 مشاهدة

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,275,255