** الموسيقى كمكون مسرحى أساسى ولغة مسرحية صامتة

** أمام الكلمة فى الفعل المسرحى تصمت الموسيقى

الكلمة تسمى الأشياء بأسمائها وتشر إلى موضوعاتها بالمعنى وتدل على مفهومات ومحسوسات وتتداعى فى معارفنا اللغوية ومسالكها المعقدة .. أما الموسيقى المحض فهى لغة الصمتى التى بلا معنى بلا دلالة فى علاقتها مع الوجود المادى الثلاثى الأبعاد. فهى تثير وتحفز وتحرض، وهى تقلقل وتخلخل؛ تبنى وتهدم المشاعر والحالات فى وجداننا، تحيلنا من عالم إلى آخر ومن كنه الى سواه، وكل ذلك دون عجم وبلا معنى: اللامعنى ، أو المعنى الصامت هو معجم الموسيقى الأوحد.

فى اللغة المسرحية بعيداً عن حدود اللغة الكلامية وخرج نطاق المنطوق لغات تتخاصر تتواشح مكونة الفعل المسرحى الذى يجاوز الشرح والتعليم والتلقين والوعظ إلى إثارة الخيال وشحن الذهن وتوتير اليقين والطمأنينة السالبة المكتفية بذاتها الى التشكيك والبحث. كل هذا يحدث بفعل الصمت اللادلالى فى دلالات الموسيقى.

الموسيقى لا تقول شيئاً بعينه. هى إذن تقول كل شىء

الصمت هامش واسع لتحفيز الفكر.

اللاقول يعنى اللامباشرة واللاتفسير واللاتلقين، أى تحرك وتحفز نحو البحث عن حقائق الأشياء بنفسك، ويعنى أن كن شريكاً فى إبداع المسرح من خلال قراءتك الخاصة ومشاهدتك الخاصة للمسرح، ويعنى أن فهمك الإبداعى يضيف الى المسرح بمقدار ما يسمح هو لك بهامش من الحرية والتحليق فى تأويلات معانيه وحالاته.

بين لغة المؤثرات الصوتية ولغة التعبير الموسيقى:

تتراوح الاستخدامات المباشرة للموسيقى فى مسرح الأطفال بين الموسيقى التى تروى فى بنائها الهندسى وفى شحنتها الداخلية قصة ما، وبين الموسيقى المقتصرة على المؤثرات الصوتية التى تدعم وتساهم فى تشكيل الأجواء أو تعزز مشاعراً ما أو تسبق لها أو تزيلها.

بين هذا وذاك فارق نوعى فى اللغة الموسيقية وفى فهمنا للصوت كمادة أساسية فى صناعة هذه اللغة وتشكيلها، وفى وعينا لقوانين اللعبة الفنية بين الموسيقى كمؤثر صوتى أو الموسيقى كفاعل درامى عميق وكعامل جديد يضيف للعمل المسرحى بعداً لا يتوفر إلا فيه ولا يتحقق إلا به.

الموسيقى فاعل درامى عميق يضيف للعمل المسرحى بعداً لا يتحقق إلا بها

الموسيقى كمؤثر صوتى عنصر هام فى الاستخدامات المسرحية وخاصة فى مسرح الأطفال، فهو "يلون" الشكل المسرحى وموضوعاته، وهو يغنى ويشكل الاجواء ويسهم فى خلق البيئة المكانية والزمانية، ويضخم المشاعر والحالات الدرامية، إلخ .. لكنه يبقى فى نهاية المطاف أسير الشكل والأجواء؛ يبقى أسير السطح.

حين يراد للموسيقى أن تساهم فى العمل المسرحى بوصفها شخصية جديدة وعنصراً آخر وبعداً إضافياً، فهناك ضرورة لتجاوز هذه الآليات المؤثراتية نحو تطوير لغة أكثر إحكماً وأبعد نظراً وأعمق تأثيراً على التركيبات الحسية والذهنية المعقدة للطفل وللإنسان، وهذا موضوع لا مجال هنا للخوض فيه عميقاً، فهو يدخل فى صلب الإحتراف والتمرس الموسيقى، لكن اكتفى بالتلميح الى ذلك من أجل لفت النظر الى أن وظيفة الموسيقى لا يمكن أن تقتصر على المؤثرات الصوتية الشكلية الكوسماتيكية، بل تستوجب استخدامات أكثر إحكاماً قادرة على سبر غور أعماق الموضوع المسرحى وقرارات الشكل والبنية، وبالتالى بلوغ وجدان الطفل / الإنسان بالمعنى الوجودى والإنسانى العميق.

فى التحول من المؤثرات الى لغة التعبير تجاوز للتقنى المحض والواقعى التعيينى الى حيز يفعل فيه العقل وتفعل فيه الحواس ويستثار فيه الخيال، بل وأكثر من ذلك، هنا فى هذا الحيز يعاد خلق المخلوق ويسار الى واقع خاص ومميز هو الواقع المتخيل/ الواقع الفنى، الذى ينشأ على خشبة المسرح، لكن الستار لا يسدل عليه هناك فيما نأخذ تداعياته معنا الى حياتنا ما بعد العرض المسرحى، فنكون به ومعه أشخاصاً آخرين وأذواقاً لا تشبه ما كنا عليه قبل العرض.

الموسيقى المشاكسه للصورة والمعرضة للحالة المسرحية:

فى مسرح الأطفال ، حيث منطق الخيال، او لنقل "اللامنطق" هو قانون القوانين ، والخروج عن المألوف هو سنة السنن، هناك حيث تتكلم الحيوانات بلا حرج وحيث الغابات تغص بالأصدقاء والقصص ، وحيث الجبال تنحنى والبحار تستشيط غضباً أو تتنحى حباً، وحيث زهرة الأرجوان تلعب دور اللبطولة وتنسج من حولها الحكايات .. فى هذا المسرح العجيب لا تطلق اجنحة الموسيقى نحو الشطح والجنون فحسب، بل يحق للموسيقى هنا حتى الاختلاف وأخذ المبادرة فى لعب دور مشاكس يدخل فى صميم النسيج الدرامى ويتصاعد فى احتدامات الحكايات معها.

ما معنى ذلك؟

التعارض بين عناصر المسرح يخلق مفارقات ويثير الخيال ويجعل الواقع رتيباً خارج خشبة المسرح، ولنأخذ مثالاً مما نعرفه جميعاً فى مسرح الأطفال:

لو شئنا مسرحة قصة شهيرة كقصة ليلى الحمراء، فأى ديكور كنا سنختار لهذه المسرحية؟

فى الاحتمال العادى الواقعى الذى يصور ويدعم ويكمل، كنا سنختار ديكوراً يعزز الشعور بالمكان والبيئة الواقعية وما شابه مما يخدم المسرحية ومتطلباتها المباشرة..

حسناً .. ولكن ماذا لو اخترنا أن يكون الديكور/ المكان على متن طائرة أو داخل سجن أو داخل حلم يتشكل فى دماغ طفل نائم .. ماذا لو كان الديكور / الزمن عام 3000 أو فى العصر الحجرى؟ ماذا لو لم نتطرق الى زمان او مكان أصلاً؟ كيف ستتصرف القصة حين ذاك؟

ماذا لو لو استبدلنا شخصية الذئب بالموسيقى نفسها؟ ماذا لو استحضرنا ليلى عير الموسيقى فقط دون ليلى التى نعرفها ونتوقع ظهورها على خشبة المسرح؟

هنا يأخذ المسرح على عاتقه مهاماً من نوع جديد وتحديات لا حدود لاحتمالات تحققها .. هنا تتجاوز الموسيقى حدود خضوعها للعوامل المسرحية التقليدية ويتحول الموسيقى الى فاعل اساسى الى جانب خالق القصة ومخرج المسرحية ومحركى خيوطها الكثيرة والمعقدة.

هنا تبدأ متعة المسرح، وهنا يبدا الطفل الإنسان بالتشكل بوصفه إنساناً مختلفاً ومفاجئاً.

المصدر/ جريدة مسرحنا

العدد / 167 – بتاريخ 20 سبتمبر 2010

بقلم / محمد جمال الدين

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,834,660