عندما شرعت في كتابة مقال العدد الماضي عن الكاتب الكبير "أسامة أنور عكاشة" قبيل رحيله عن دنيانا بأيام قليلة، كنت أتمني أن تصله كلماتي وهو سابح في لاوعيه بغرفة العناية المركزة، علها تشارك مع دعائنا وجهود الأطباء في منحه القوة لاسترداد وعيه والعودة لنا، كي يمنحنا القوة علي مواجهة الشدائد والمصاعب والفساد الذي ساد مجتمعنا، وصرنا نتحدث عنه كأمر عادي مثل حديثنا عن قمامة الشوارع، وارتباك المرور، والبطالة، والغربة وعدم الانتماء، وكل الآفات التي واجه "عكاشة" الكثير منها في أعماله المتدفقة بالوعي، والمثيرة لمتلقيها كي لا نتعامل معها باعتبارها أمراَ واقعاَ.

ولم يتوقف أمر كتابة مقالي عن "عكاشة" قبيل رحيله الذي زلزلنا جميعاَ عند حد التمني في أن تصله كلماتي ليعرف أننا جميعاَ حوله وحول إبداعه المتميز، بل أيضاَ كان لدي الأمل في أن تمنحني هذه الكلمات القدرة علي ألا أري وطني غارقاَ في السواد، ومجتمعي ساقطاَ في الوهن، وعقل أهلي تقوده الغيبيات، ومصريتي ضعفت حتى أهينت في كل قطر عربي، وسحلت وعلقت علي أبواب المدن والقرى، خاصة وأنا أشارك في نفس الأسبوع الماضي في واحدة من حلقات النقاش الفكرية، ضمن مؤتمر (الشخصية المصرية في عالم متغير) الذي نظمه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، فيما بين 23 و25 الماضيين، وأدارت حلقة النقاش بجدارة علمية راقية د. نسرين البغدادي أستاذ علم الاجتماع بالمركز، وشرفت خلالها بالجلوس إلى جوار الكاتب الكبير محفوظ عبد الرحمن، والكاتب المتألق بلال فضل، ود. أحمد مجدي حجازي نائب رئيس جامعة 6 أكتوبر، ود. سهير لطفي أستاذ علم الاجتماع أيضاَ بالمركز ود. سمير مرقص مدير مؤسسة المصري للحوار والمواطنة، وانطلق النقاش ارتكازاَ علي شهادات المتكلمين علي ما حدث للشخصية المصرية من تغيرات أبرزت جوانبها السلبية بصورة أضعفت من دورها القيادي داخل وخارج الوطن.

نمط السلوك

حرصت علي أن أنطلق في شهادتي المتواضعة علي تتبعي النقدي الممتد من أواخر ستينيات القرن الماضي للحركة الثقافية في حقل الدراما المرئية من مسرح وسينما وتليفزيون، منطلقاَ من نقطة وعي تري أن هذه الفنون المرئية، ككل الفنون الأخرى، لا تقف عند حد التعبير عما يحدث للواقع، فترصد ما هو سلبي وما هو إيجابي، وإنما هي مؤثرة في هذا الواقع، وتكاد أن تكون مشاركة فيما آل إليه، فالمبدع كمثقف، واع أو غير واع، لا ينقل ما يعيشه ويراه أو يقرأه في صفحات الحوادث، بل هو يختار ويعيد إنتاج ما أختاره في عمل فني يتأثر به جمهوره، إلى درجة تغيير سلوكه اليومي، ومن ثم شخصيته وعقله.

والصورة المرئية ذات خطورة كبيرة في دعم أفكار التغيير في لا وعي المشاهد، فالأزياء التي تظهر بها البطلات علي شاشتي السينما والتليفزيون، تصبح موضة لدي فتياتنا، بغض النظر عن أجسامهن وواقع حياتهن، وعندما نقلت السينما المصرية في الأربعينيات والخمسينيات نمط البيت الأمريكي من الأفلام الغربية، بما فيها وجود بار بكل شقة، تحولت كل بيوتنا زمنذاك إلي بيوت أمريكية وأوروبية، بركن ما منها بار صغير، نضع فيه الكؤوس فارغة دونما استخدام، لكنها صارت جزءاَ من نمط سلوكنا، وعندما ركزت الدراما التليفزيونية سابقاَ علي ضرورة وجود مكتبة بديكورات شقة الشخصيات، حرص الجمهور العادي علي تخصيص مكان بشقته لمكتبة، حتى ولو وضع فيها كتب أولاده المدرسية.. غير أن الحالتين دفعتا المواطن لسلك سلوك ما، كان من الممكن تنمية الثاني منه، وربطه بمشروع مكتبة الأسرة، لتصبح للثقافة وجود فاعل في الشقة المصرية، لكن مصممي ديكورات شقتنا التليفزيونية اليوم أهملوا هذا التوجه، فغابت المكتبة عن بيوتنا.

التعلم والمعرفة

في المقابل عندما كتب د. "طه حسين" في سيرته الذاتية (الأيام) عن نشأته صبياَ فقيراَ، وصعوده من القرية إلى المدينة فأوروبا، حتى صار واحداَ من أهم مفكرينا وعميداَ للأدب العربي، عرفنا منه أن التعليم والمعرفة والثقافة هم سر تفوقه وصعوده الاجتماعي، وأكدت السينما والتليفزيون علي هذا الجانب في الفيلم والمسلسل اللذين أعدا عن هذه الرواية السيرية، كما صارت علي نهجه فيلم (بداية ونهاية) أوائل ستينيات القرن الماضي، والمعد عن رواية "نجيب محفوظ" الأربعينية، والتي صعد فيها من قاع المجتمع وبدرومه الأخ الثاني "حسين" بالتعليم المتوسط ليستقر به الحال في أسرة ميسورة الحال، وصعد الأخ الثالث "حسنين" بالتحاقه بالكلية الحربية ليصبح ضابطاَ مرموقاَ، بينما يسقط الأخ الأكبر "حسن" في البلطجة وبيع المخدرات بسبب عدم التعلم في بيئة فقيرة، كما تسقط أختهم "نفيسة" في الرذيلة بذات السبب المزدوج: الفقر وعدم التعلم مع غياب الجمال عنها، واستمرت السينما المصرية في تأكيد دور المهندس والطبيب علي الشاشة، ومجدت التعلم والكفاح في فيلم (النمر الأسود) للمخرج "عاطف سالم"، والذي قدم قصة كفاح الخراط المصري الأمي "محمد المصري" في ألمانيا في منتصف ثمانينات القرن الماضي، اعتماداَ علي مهارته وتفوقه العلمي في مجال العمل والملاكمة، ثم انقلبت عليه في أواخر التسعينيات في فيلم "همام في أمستردام" للمخرج "سعيد حامد"، والذي يقدم فيه شخصية الفتي الفقير "همام"، الباحث عن العيش الأفضل في أوروبا، فيسافر إلى هولندا بشهادته المتوسطة التي تساوي العدم، فينسف به الفيلم سمات العلم والتعلم والمعرفة التي لابد أن يغرسها الفن في وعي مشاهديه، ليؤكد علي سمات الفهلوة وشجاعة الشوارع والحانات لدرجة البلطجة.

المواجهة

وعندما قدم لنا "محفوظ عبد الرحمن" مسلسله المتميز في ثلاثة أجزاء (بوابة الحلواني) لم يكن يستدعي زمن الخديو "إسماعيل" في نهايات القرن التاسع عشر، بل كان يقرأ هذا التاريخ بعيون معاصرة، ويدفعنا دفعاَ لإعادة قراءة تاريخنا بصورة موضوعية واعية، تتفق مع توجه جيل من المؤرخين الشبان حمل اسم (المؤرخين الجدد)، كما أن صياغة "يسري الجندي" الحالية لمسلسله الجديد (سقوط الخلافة) لا تقف عند حد إعادة إنتاج وقائع سقوط الخلافة العثمانية، وإعلان تركيا الحديثة أوائل القرن العشرين، بل هو يقرأ الواقع الراهن علي خلفية أحداث الأمس، فينبه وعينا بضرورة فهم التفتت العربي الحالي في سياق الصراع مع الغرب، ويربط بذكاء بين عملية إسقاط السلطان "عبد الحميد"، نظراَ لرفضه المحاولات الصهيونية التي قام بها "هيرتزل" والمدعومة بقوة إنجليزية للضغط عليه للاعتراف باحتلال اليهود لأراض فلسطينية، وبذات محاولات الكيان الصهيوني اليوم المدعومة بدورها بقوة أمريكية للضغط علي العرب لعدم قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة.

إنها الدراما الواعية عندما تتعامل مع التاريخ، والكاتب المنتبه لواقعه والمتصدي لمثالبه، والساعي لتوعية عقل مجتمعه، كي يعيد للشخصية المصرية سماتها الإيجابية وأوجهها المضيئة وقدرتها الفذة علي المواجهة والتصدي لكل صور الفساد والهزيمة، معيداَ لها ما طرحه "فتحي دياب" في مسلسله الجاري تنفيذه حالياَ بتوقيع المخرج "إسماعيل عبد الحافظ"من ضرورة استعاده (روح أكتوبر) التي صنعت نصر 1973، ثم خمدت بفعل ضربات التغييب والفكر الفاسد.

 

بقلم / د. حسن عطية

المصدر /باب دراما مرئية بمجلة أخبار النجوم العدد / 923

10 يونيو 2010

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,205,314