تميز عصر النهضة الأوروبية بتغيرات حضارية كبري يهمنا أن نذكر منها الآن التوسع الجغرافي للأوروبيين في تلك الفترة، الذي قد يكون هو السبب الأول في تشكل النموذج الأوروبي ذلك الذي يعتبر الغرب هو المركز الحضاري للعالم في حين تسير الحضارات الأخرى في مدارات محيطة به تتبعه وتقل أهمية عنه.

كانت معلومات الأوروبيين عن العالم حتى العصور الوسطي لا تكاد تتجاوز الإقليم الواقع غرب روسيا، وبعض مناطق الشرق الأوسط، وكانت لديهم أفكار غامضة عن الصين والهند، وعن شمال أفريقيا فحدود العالم المعروف لديهم كانت هي المحيط الأطلسي والصحاري الأسيوية والأفريقية.

ثم جاء عصر النهضة الذي توجه فيه اهتمامهم إلى الطبيعة، واتخذ هذا الاهتمام مظهرين أساسيين: مظهر الرغبة في التعمق، ومظهر الرغبة في الامتداد أي التغلغل في الطبيعة من جهة والتوسع فيها من جهة أخري، والمظهر المتعمق هو الذي ولد العلم أما المظهر التوسعي أو الامتدادي فهو الذي شجع الكشف الجغرافي.

ومما لا شك فيه أن الاهتمام باستغلال الطبيعة، وظهور طبقات التجار، وازدياد أهمية دافع الربح بوصفه محوراَ للحياة كل هذا كان يقتضي السعي إلى ارتياد الآفاق المجهولة في العالم، والبحث في الثروات الخفية فيه بدافع من الرغبة في السيطرة الاقتصادية علي مناطق جديدة في العالم ومحاولة استغلال ثروات الشرق الهائلة.

وقد تميزت في هذه الكشوف بوجه خاص دولتان: البرتغال، التي اتجهت نحو الشرق خاصة، وسيطرت علي الهند وعلي أسواق الشرق الأقصى معها، وإسبانيا التي اتجهت نحو الغرب وفتحت أبواب قارتي أمريكا للأوروبيين، ودخلت إنجلترا وفرنسا فيما بعد هذا السباق، وحاولت كل دولة أوروبية أن تسيطر علي أكبر مساحة ممكنة من الأرض الجديدة ومن الأسواق.

وهكذا كشفت في مدة وجيزة ثلاث قارات جديدة: الأمريكتان وأستراليا وعرفت الحدود الحقيقية لقارتي آسيا وأفريقيا، وبدأ العهد الذي سيطرت فيه الحضارة الأوروبية بكل قيمها علي العالم حيث امتد تأثيرها وظلت تتحكم في مجريات حوادث العالم ومن هنا نشأ النموذج الغربي الأوحد الذي ما يزال للآن يحاول أن يفرض هيمنته علي العالم في صورة العولمة.

إن مفاهيم الكشوف الجغرافية إذا تناولناها برؤية أخري تختلف عن رؤية الوعي الأوروبي

 

 

نجد أنها تتضمن عدة أمور:

1-  النظرة الذاتية الخالصة التي تنم عن عنصرية دفينة وكأن العالم يوجد فقط عندما يعرفه الوعي الأوروبي، بما يتضمنه ذلك من إنكار للتاريخ الحضاري للشعوب غير الأوروبية وكأنها كانت حضارات ما قبل التاريخ وبالتالي إنكار لفنون هذه الشعوب.

2-  أن هذه الكشوف هي بداية الاستعمار التقليدي القديم الذي امتد ليحيط بالعالم القديم بحراَ حول أفريقيا جنوباَ وإلى الهند شرقاَ وأمريكا غرباَ، هذا الخروج يتضمن بداية القضاء علي الثقافات المحلية بعد تعلمها وجمع أكبر قدر من المعلومات عنها ثم زرع الثقافة الأوروبية محلها كثقافة بديلة ووحيدة ممثلة للثقافة العالمية.

3-  قسمة الشعوب إلى حضارية وبدائية أو متقدمة ومتخلفة أو صناعية وزراعية أو عقلية وأسطورية أو موضوعية وذاتية، وقد وجدت كل هذه التقسيمات صياغاتها المتطرفة في النظريات العنصرية.

وقد أثرت هذه المفاهيم تأثيراَ كبيراَ في تقييم الفنون الشرقية وتقديرها، ووضعها في ترتيب تطوري مستمد من تلك المفاهيم، فأصبح تراث الفن بالنسبة للناقد والفنان الأوروبي وحتى بالنسبة للإنسان العادي يكاد يقتصر علي تراث عصر النهضة والقرنين التاليين له بالإضافة لبعض الآثار الرومانية، ولذلك لم يكن بوسع الناقد أو الفنان الأوروبي أن يستجيب لأي فن آخر خارج هذا النطاق.

من هنا كان الغرب يتناول الفنون الشرقية وفنون الحضارات القديمة أجمعها ليس بما تتضمنه من قيم لها معاييرها الخاصة المستمدة من تلك الحضارات، بل بقياس هذه الفنون بالمعايير الأوروبية لكي تبقي العلاقة بها علاقة تبعية لا تخرج عن نموذجهم الغربي الأوحد.

وقد حالت النظرة الغربية للعالم المتمركزة حول ذاتها دون تفطن المختصين الأوروبيين، لفترة طويلة، إلى وجود نظرة جمالية للفنون الشرقية تفسرها في ضوء الضرورات الروحية والتاريخية الخاصة بها، مما أدي إلى الوقوع في الكثير من الملابسات والأخطاء في فهمها وتقييمها.

ولنأخذ الفنون الإسلامية هنا كمثال، فقد تمت دراستها علي مستوي المنهج دراسة وصفية وأسلوبية وترتيبها علي أساس جغرافي، فنجد فناَ مصرياَ، وفناَ سورياَ، وفناَ فارسياَ، وفناَ تركياَ، كأنما الفن الإسلامي ليس أكثر من الحصيلة المادية لهذه الفنون دون خط جمالي ناظم وموحد لها.

ونلاحظ انه حتى بعض الدراسات التي نبهت إلى الحاجة الروحية ومبرراتها عند الشعوب الإسلامية، لم تظهر عند الدارسين الغربيين إلا في شكل مباحث جانبية أو تكميلية تطرح العديد من المفاهيم السطحية عن مبررات الإبداع عند المسلمين أقحم فيه النموذج الغربي، فمثلاَ  كثيراَ ما نجدهم يستخدمون عبارة النفور من الفراغ أو الفزع من الفراغ، وهو النزوع في الفنون الإسلامية إلى شغل المساحات علي نطاق واسع بالعناصر الزخرفية، وهذه التسمية تكشف عن ذلك الميل اللاشعوري عند أولئك المؤرخين إلى قياس الظواهر الفنية الإسلامية علي النموذج الغربي فيكون تناولهم لمفهوم الفراغ فيه إشارة إلى مفهوم غربي وهو موقف الجمالية الغربية القابلة للفضاءات الفارغة الخالية من الزخرفة أو العناصر.

ومثل ذلك يقال في الاستعمال التعسفي لمعني التجريد في الحديث عن الفن الإسلامي، والحقيقة أن كلمة تجريد مشحونة إلى حد ما بمعان غريبة عن البنية الإسلامية، فهي تفترض وجود تقابل أو تضاد بين تمثيل أو نقل وصفي للعالم المرئي إلى العمل الفني من ناحية، وبين وجود موضوعي مستقل للأشكال المبتدعة خارج أي ارتباط بذلك العالم، ومعني التجريد في الغرب هو رد فعل ضد نظرية المحاكاة بمختلف صيغها، تلك التي بلغت ذروتها مع بداية القرن العشرين مع "كاندينسكي" KANDINSKEY وزملائه، عندما وضعوا موضع الشك مشروعية الإرتباط بعالم الواقع المرئي بينما نجد مفهوم التجريد في الفن الإسلامي يسعي لإستلهام حركة الطبيعة ونظمها وقوانينها في التشكل والتلون والنمو والانتظام.

في مثل هذا السياق المتأثر بالقاموس الفني الغربي تقسم الفنون الإسلامية إلى كبري وصغري ودينية ودنيوية، وهي مقولات بعيدة عن الذهنية الإسلامية، كما يسارع الكثير من المؤرخين الأوروبيين بناء علي تفسير سطحي أو مغرض أو استناداَ لحادثة عابرة إلى اعتبار الحضارة الإسلامية معادية للصور أو محطمة للصور ICONOCLASTE قياساَ علي التاريخ الغربي نفسه الذي شهد حركات معادية للصور التي حدثت في القرن الثامن الميلادي في الإمبراطورية البيزنطية علي يد القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح أو تلك التي تزعمها الراهب "سافونارولا" SAVONAROLA في عصر النهضة، وقد يكون من الأنسب أن نعبر عن وضع التصوير في الحضارة الإسلامية بإستعمال مفهوم انتفاء الأيقونية ANICONISME بدلاَ من ICONOCLAEME.

كذلك كثيراَ ما يقع الفن الإسلامي فريسة للحكم علي بنائه من خلال الموازين الأوروبية فيتهم بالتكرار، ويرجع سوء الفهم إلى عزل سطوحه وتأطيرها عن بقية العناصر البصرية القائمة علي الاختلاف في الكثافة والملمس والغزارة والشدة، وعلي الفروق المنغمة للمواد، وعلي التنوعات الإيقاعية الديناميكية المرتبطة بالتعبير الموسيقي فمثلاَ حين ندرس العمارة الإسلامية عارية نقع في تعسف إذ إننا نلغي دور العناصر التي تشكل حيوية هذه العمارة كالسجاد والثريات، وهكذا تحتاج الفنون الشرقية بشكل عام إلى دراسة شمولية واعية ملمة بالمنطلقات الثقافية والعقائدية لهذه الفنون.

حدث هذا الخلل في تذوق وتناول الإنسان الغربي العادي للفنون الشرقية الأخرى، حيث كان الشرق علي الدوام بالنسبة له أرض العجائب والألغاز، ورغم ما أحدثته وسائل الاتصال الحديثة من تقريب للملامح الخارجية للحضارة الشرقية، فإن روح هذه الحضارة الداخلية ما تزال غريبة وبعيدة عنه، فعندما يهتم ببعض الجوانب الروحية الشرقية: ديانة مثل البوذية، أو فلسفة مثل الطاوية، فإنه يقنع دائماَ بأن يظل خارج الموضوع مجرد متفرج متعاطف معه رغم التعلق بالفن الشرقي الذي بلغ أحياناَ حد الهوس في بعض المراحل، مما جعل فناني وصناعي الغرب يقومون بتقليد بعض الأعمال التي تحمل الملامح السطحية للفن الشرقي أياَ كانت مرحلتها أو أسلوبها مما أدي إلى سوء فهم كامل لفن الشرق، حيث إن هذا الفن لا يكشف عن أسراره إلا ببطء.

وفي هذا يقول هربرت ريد:

" لكي يستطيع المرء أن يقدر تلك الأعمال الفنية تقديراَ كاملاَ، فإن عليه أن يحصل علي أعين جديدة وطريقة جديدة في النظر إلى العالم ذلك لأننا نستطيع أن نقول بدون تحفظ، إن الفنان الشرقي لا ينظر إلى العالم أبداَ من نفس وجهة نظرنا".

ذلك أن نظرة الغربي إلى الفنون الشرقية من خلال مفاهيمه قد حولت هذه الفنون إلى مجموعة من الزخارف والعلاقات الشكلية التي ليست لها علاقة بروح هذه الفنون وارتباطها بنسيج من المعطيات الثقافية والدلالات الرمزية لم يكن الغربيون الذين يستلهمونها يفقهون شيئاَ عنها، فالواقع أن دعاة الفن اللاشكلي يرجعون بطيب خاطر إلى الشرق الأقصى.

فهم يعلنون عن اهتمامهم ببوذية "زن" وبالمناظر من عهد أسرة "سونغ" وبالخطوط الكتابية الصينية واليابانية.

غير أن هؤلاء الذين يجاهرون بإعجابهم ببوذية "زن" بعيدون كل البعد في غالبية الأحوال عن أن يعيشوا عيشة الرهبان البوذيين، فهم لا يستطيعون أن يقرأوا البوذية بقلوب بوذية، ورغم أنهم يريدون أن تكون لوحاتهم قريبة من لوحات المناظر الطبيعية في عهد "سونغ" أو من الكتابة الشرقية، إلا أنهم قليلو الاهتمام بروح هذه الفنون، ولا يتمسكون منها إلا بالناحية الخارجية: هنا بضع بقع واهية، وهناك خط منساب متعجل بالطبع لا يكفي إلقاء بضعة أحرف علي لوحة لصنع خط كتابي فني بالمعني الذي لهذا التعبير في الصين حيث تمثل العلاقة فكرة ما أو شيئاَ ما.. في حين أن ذلك لا يعني الكثير في التصوير التجريدي الغربي الذي لا يهتم بالإتيان برموز مصطلح عليها، بل يسعي للإتيان بأشكال ذات معني بالنسبة لبعضها البعض.

كذلك كان تقييم الرؤية الغربية لتماثيل الجسم الأنثوي في النحت الهندي، بوصفها إباحية لحد بعيد في حين أن مفهومها في النحت الهندي أكثر سمواَ وروحانية، وقد أشار آتيان سوريو – وهو من أهم الدارسين الجماليين في العالم اليوم- إلى هذه القضية قائلاَ :

"إن الأثر الفني وقد انفصل عن إطاره الثقافي يصبح أثراَ غير قابل للفهم أي لا يروق للإحساس الجمالي في بلد آخر، لكننا إذا ما نظرنا إلى الأحداث الجمالية من ناحية منفتحة عالمياَ، ندرك كم هو مهم أن نوجه انتباهنا إلى تلك الأشكال الفنية التي تبدو للوهلة الأولي غير ملائمة لعاداتنا وأحاسيسنا، وإنه لمن الخطأ أن ننظر إلى الأمور، كما حدث غالباَ في تاريخ الفن، من موقع التيار الهيليني النشأة فقط وكأنه وحده ذو الأصالة الجمالية، ضاربين صفحاَ عن كل ما عداه، وإذ إنه ستكون لدينا لوحة ناقصة جداَ للإحساس الجمالي للإنسان إن نحن أغفلنا النظر إلى الجمالية الهندية أو اليابانية".

وبذلك يكون سوريو قد لخص مشكلة سطوة النموذج الغربي جماليا وأبرز تبعاتها من هنا ظهر في العصر الحديث وعي جديد بفنون الحضارات الشرقية يحاول تلمس روحها وجمالياتها الخاصة.

 بقلم/ د. امل نصر المصدر/جماليات الفنون الشرقية و اثرها على الفنون الغربية

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,909,561