الداعية وكشف المسكوت عنه في عالم الدعاة الجدد وشيوخ الفضائيات

د. هويدا صالح   

في ظل تصاعد ظاهرة شيوخ الفضائيات التي بدأت في نهايات القرن الماضي ووصلت إلى ذروتها الآن مع تصاعد تيارات الإسلام السياسي ، ووصولها إلى السلطة في عدة دول عربية يأتي المسلسل الدرامي التلفزيوني " الداعية " ليكشف المسكوت عنه في حيوات ما يُسمى بين قوسين بـ " الدعاة الجدد "، تلك الظاهرة التي اتخذت من الدين تجارة رابحة وصلت في بعض القنوات الفضائية بأن يعطوا مرتبات خرافية تصل إلى ملايين الجنيهات سنويا لبعض هؤلاء الدعاة، بل ووصل الأمر في بعض القنوات أن يأخذ الدعاة نسبة من الأرباح من الإعلانات التجارية التي تذاع بين فواصل البرامج.

يدور الفضاء الدرامي للمسلسل حول داعية شاب يقوم بتمثيل دوره الفنان هاني سلامة، الذي  وصل من النجومية أنه يرتدي ملابس من أعلى الماركات العالمية ، ويركب أحدث السيارات التي يتنقل بها بين المساجد حيث يلقي دروسه والقناة الفضائية التي يعمل بها. شخصية الداعية تحمل في خطابها الديني الكثير من التشدد، بل والمزايدة على التطرف الراديكالي اليميني الذي يجعله يحرم الفن والشعر والموسيقى، فينزعج من صوت الفيولينا، ويمزق دواوين المتنبي ونزار قباني، ويكسر آلة الكمان التي تعزف عليها ابنة أخته.

كاتب المسلسل لا يفوته أن ثمة نماذج لدعاة درسوا الفقه وتعمقوا فيه، وقدموا خطابا دينيا وسطيا معتدلا، لا يقصي الآخر، ولا يهمشه، ولا يعتدي على حريات الآخرين لا يحرم الفنون والآداب، فنرى شخصية الشيخ حسن زوج أخت الداعية الشاب ورفيق طفولته وشبابه، يقوم بتمثيل دوره الفنان أحمد فهمي، ويرى الشيخ حسن أن الشعر والموسيقى ما دام لا ينهي عن ذكر الله ولا يفسد الذوق والخلق، فهو حلال ولا ضير منه، فيدافع عن ابنته التي تتعلم عزف الموسيقى وتقرأ الشعر ، ويغضب من " الداعية " النجم الذي يعاقب ابنة أخته لأنها عاشقة للفنون.

كذلك رسم كاتب المسلسل شخصية أخرى تقوم بدور محوري في الأحداث الدرامية هي شخصية  نسمة عازفة الموسيقى في فرقة القاهرة السيمفوني وتقوم بدورها الفنانة بسمة. اختار الكاتب الموسيقى الكلاسيك كأحد أرقى أنواع الفنون، كما اختار آلة الفيولين كأرق أنواع الألحان التي تعزف ليفوّت على الداعية الشاب مقولة أن هذا النوع من الفنون قد يثير الغرائز، فالموسيقى الكلاسيك بعذوبتها ورقتها لا يمكن إلصاق تهمة إثارة الغرائز بها، كما أن أداء الفنانة بسمة بما اتسم من هدوء ورقي في الأداء يصب في ذات الفكرة أن هذا الفن هو فن راق وسام.

ثمة خطان دراميان ينظمان الفضاء الدرامي للمسلس ل،فبالإضافة إلى الصراع الذي أعلنه الداعية على نسمة جارته والتي تساعد ابنة أخته على تعلم الموسيقى ينهض وجها آخر للصراع بين المدنية والحداثة من ناحية والتطرف والتشدد الديني من ناحية أخرى، إنه الصراع بين شباب الثورة ودعاة الدولة المدنية، والمتأسلمين ودعاة التطرف، فنسمة ليست مجرد عازفة فيولين، بل هي ناشطة سياسية تنظم التظاهرات من أجل المحافظة على مدنية الدولة، واستمرار ثورة 25 يناير، ويقف في مواجهتها هي وشباب الثورة شباب التيارات الإسلامية الذين يدعون إلى أن تطبق الشريعة ويناهضون فكرة مدنية الدولة.

لكن مع التصاعد الدرامي للعمل يحدث لشخصية الداعية انحراف درامي نوعي لم يكن متوقعا، ففي الحلقات الأولى من العمل كانت شخصية يوسف متشددة في رفضه للفن والثقافة، وزاد تطرفه علاقته بشيوخ السلفية الذين رأوا فيه فرصة لتوصيل خطابهم المتشدد إلى القاعدة العريضة من الجماهير، قاعدة مشاهد القنوات الفضائية. جاء التطور الدرامي نتيجة لوقوع الداعية في غرام عازفة الفيولين، ومدرسة الموسيقى في الكونسرفتوار نسمة. كانت العلاقة بينهما منذ البداية متوترة وعلى سطح من الجمر القابل للاشتعال في أقل وقت، لكن ابن أخت الداعية يتعرض لأزمة مرضية حادة، حيث تصيبه نوبة الصرع. تنقل الجارة الفنانة الشاب إلى المستشفى هي ووالدتها الطبيبة، ويحدث أن يأتي الداعية للمستشفى، ويعرف بما قامت به الفنانة ويشعر بالامتنان لها، ومن هذه اللحظة تسود علاقتهما لحظات من الود والقبول، ويظل الداعية يراقب الفنانة من نافذة غرفته التي تطل على غرفتها، فيقع في حبها، ويختلف تفكيره ورؤيته للحياة، وكأن مشاعر الحب والشغف كانت بمثابة إشارة البدء لتغيير النظرة للحياة، فيختلف الخطاب الديني للداعية الشاب، فيميل نحو قبول الآخر والاعتدال، بل يصل به الأمر أن يبحث عن روح الدين أكثر من شكلياته، يبحث في الخطاب الديني عما يُعلي من قيمة الإنسان بصفة عامة والمرأة بصفة خاصة، لكن الخطاب الديني المتشدد المتمثل في شيوخ السلفية الذين انزعجوا من تلك الروح الجديدة التي طغت على برنامج الداعية وكذلك خطاب رأس المال المتمثل في المعلنين الذين يبحثون عن الإثارة والمال يأبيان على الداعية أن يستمر في خطابه الإنساني المعتدل، فيأبى الداعية الشاب أن يخضع للتهديد والابتزاز، وكأن التشدد يسعى جاهدا لقتل أي فرصة للإنسانية.

ويتم تبادل الأدوار بين الشيخ يوسف الذي بدا متشددا، والشيخ حسن الذي بدا معتدلا، فحين يرفض يوسف ابتزاز صاحب القناة، يقدم الشيخ حسن نفسه كبديل للداعية، ويقع في فخ استغلال الدين كتجارة دنيوية رابحة.

لكن ثمة سؤال لكاتب العمل، مدحت العدل: الصراع السياسي الذي ضمنه المسلسل وما فيه من عراك بين القوى المدنية والليبرالية واليسارية والقوى الإسلامية لم تتم فيه الإشارة إلى الإخوان المسلمين والنظام الحاكم، فقط تمت الإشارة إلى دور السلفيين ، وكيف يرتبون لفض الاعتصامات التي تقوم بها القوى المدنية والثورية  أمام الاتحادية وغيرها، وقتل الصحفيين، والتساؤل هنا هل خشى الكاتب أن يشير إلى الإخوان المسلمين بشكل مباشر، لأنهم كانوا هم من يحكمون في وقت إنتاج المسلسل، وهم من بيدهم جهاز الرقابة على الأعمال الفنية، أم أن الكاتب قصد إبراز دور السلفيين باعتبارهم الذراع العسكرية المتشددة التي يفض بها الإخوان مشاكلهم السياسية، واعتبار أن الخطاب السلفي المتشدد هو الأكثر خطورة على مدنية الدولة المصرية؟. إنها  محاولة دالة وكاشفة للأبعاد النفسية والاجتماعية للداعية الإسلامى وتقديمه كإنسان عادى معرض للصواب والخطأ. فهو إنسان من حقه أن يراجع خطابه، ويصوب ما يراه فيه من إعوجاج، وقد جاء ذلك على لسان الشخصية بشكل واضح، فحين يعترض صاحب القناة على تغير سمة البرنامج واعتراض المعلنين عليه يقول له الشيخ يوسف : من حقي أن أراجع قناعاتي وأفكاري.

تأتي أغنية تتر المسلسل كنص درامي موازٍ، أغنية كتب كلماتها  مدحت العدل وغنتها آمال ماهر، ووضع موسيقاها عمر خيرت، وتعتبر عتبه مهمة من عتبات ذلك النص الدرامي، حيث تقول الكلمات : انتباه لو كنتوا بتحبوا الحياة..الخوف جدار ضد النهار والانتصار طوق النجاة، انتباه لطيور ظلام بيصادروا حتى الابتسام ويطاردوا حلمك ف المنام ويفتشوا عنه ووراه انتباه.

نرى أن هذه الكلمات دالة وكاشفة للخطاب الثقافي الذي يحمله المسلسل، فنحن يجب أن ننتبه إلى أهمية أن نعيش الحياة، ونقضي على الخوف والترهيب والتفزيع باسم الدين، وأننا يجب أن نقف في وجه الظلام والظلاميين، حتى ننتصر للنهار والضياء. .

إن مسلسل " الداعية " يكشف المسكوت عنه واللامقول في حياة هؤلاء الذين يتاجرون بالدين، ويجنون الملايين باسمه، ويؤثرون بخطابهم المتشدد في ملايين البسطاء الذين يدعونهم للتقشف والبحث عن الآخرة وترك الدنيا وميزاتها، وشراء ما هو أخروي وترك ما هو حياتي ودنيوي. إنه يفضح تلك المفارقة وذلك التضاد بين الداعية النجم وجمهوره من شباب فقير لا يجد فرص العمل ولا فرص الزواج، فيحاول أن يصوم عن الحياة لأنه لا يستطيع أن يعيشها، وفي المقابل النقيض له شيزخ فاقت نجوميتهم نجوم كرة القدم والممثلين وغيرهم.

يأتي ديكور المسلسل الذي يصور فيه منزل الداعية مبالغا فيه، ولا يعبر عن الشخصية الدرامية التي من المفترض أنها تتخذ من التدين أسلوب حياة ، وكان الأولى به أن يميل قليلا إلى عدم المبالغة . وعلى الجانب الآخر يأتي ديكور المناطق العشوائية الفقيرة  التي تصل في بساطتها إلى حد العدم كاشفا للمفارقة والتناقض الشديد في تلك الرفاهية المبالغ فيها.

نجح المخرج أن يوظف تقنيات التصوير السينمائي في تصوير العمل الدرامي حيث استخدمت كاميرا سكوب، وكذلك الإضاءة جاءت أكثر تعبيرا عن الخط الدرامي، فلم يغال مدير التصوير في استخدام ال إضاءة على عكس المبالغة في الديكور.

 إنه سيناريو محكم البناء يرصد أدق التفاصيل في عالم دعاة الفضائيات. وقد جاء أداء الممثلين معبرا عن هذا السيناريو المحكم ، ربما لأن المخرج هو نفسه الكاتب استطاع أن يرسم الرؤية الإخراجية للعمل كما استطاع أن يرسم الشخصيات على الورق بدقة ومهارة. إن نجوم مسلسل الداعية أجادوا تجسيد الرؤية الإخراجية والخيوط الدرامية للكاتب والمخرج محمد العدل وكان أبرز هؤلاء النجوم هم هاني سلامة  و أحمد فهمي وريهام عبد الغفور وأحمد راتب وبسمة ، وغيرهم من أبطال العمل.

إن بورصة المسلسلات التلفزيونية وسباق القنوات الفضائية، مصرية وعربية على عرض المسلسلات الأشهر جعلت هذا المسلسل يُذاع يوميا على عدة قنوات مختلفة ، وفي أوقات متتالية ، فبمجرد أن ينتهي على قناة وتحول المؤشر إلى أخرى إلا ويطالعك وجه الداعية في مشهد جديد من ذات الحلقة على قناة أخرى. حتى أنك يمكنك أن تشاهد الحلقة أكثر من خمس مرات في الليلة الواحدة لو أردت.

المفارقة المدهشة أن هذا العمل الدرامي كان قد رُفعت ضده دعوى قضائية لمنع إذاعته لأنه يتعرض لشخصية رجل دين ، ولولا قيام ثورة 30 يوليو 2013 التي سبقت رمضان بأقل من أسبوعين وأزاحت حكم جماعة الإخوان المسلمين من مصر ما أذيع هذا المسلسل، لأن رافع الدعوة رأي فيه أنه يسئ إلى الإخوان، وربما لو ظل الإخوان في حكم مصر ما كان لهذا المسلسل أن يعرض.

المصدر: المركز الإعلامي بأكاديمية الفنون

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,202,549