إن نقطة الالتقاء البارزة بين أعمال "بيتر بروك" المسرحية والفكر التقليدي والنظرية الكمية هي الوعي المشترك بالتناقض باعتباره المحرك لكل عملية في الواقع.

فالتناقض له دور بارز في تغيير الاتجاه الذي اختاره "بروك" لنفسه طوال مشواره الفني، بداية من تقديم أعمال شكسبير والكوميديا التجارية وصولا إلى التليفزيون والسينما والأوبرا، ويقول "بروك" (لقد أمضيت حياتي العملية في البحث عن المتناقضات، والوصول إلى الحقيقة عن طريق المتناقضات هو مبدأ جدلي )، وهذا الكلام يؤكد علي دور التناقض كوسيلة لإيقاظ الفهم عند "بروك" الذي اتخذ من الدراما الإليزابيثية نموذجا لذلك حين قال "كانت الدراما الإليزابيثية كشفا ومواجهة وتناقضاَ أدي إلى التحليل والتورط والإدراك، وفي النهاية إيقاظ الفهم"، فالتناقض ليس هداما إنما هو قوة توازن وله دوره الذي يؤديه في كل العمليات . وقد يؤدي غياب التناقض إلى تجانس عام وتناقص في الطاقة والموت في النهاية، لأن كل ما يحتوي علي تناقض يتضمن الحياة، كما يقول "لوباسكو" الذي تقوم استنتاجاته علي الفيزياء الكمية، وقد أشار "بروك" إلى الدور البناء للنفي في مسرح "بيكيت" حين قال "لم يقل "بيكيت" (كلا) بقناعة، وإنما قام بتزييف نفيه القاسي من شوقه للإيجاب، لذلك كان النفي هو يأسه الذي يشتق منه النقيض".

ويلعب التناقض دوراَ رئيسياَ في أعمال "شكسبير" التي تمر خلال عدة مراحل من الوعي، وأن ما جعل شكسبير يفعل ذلك تقنيا هو الجوهر وخشونة النسيج والخلط الواعي بين المتناقضات، وبذلك يظل شكسبير هو القمة والمثال الكبير، ونقطة المرجع الدائمة في التطور المحتمل للمسرح. "فمن خلال تناقض المقدس والمدنس، والصراخ التعويضي عن المفاتيح غير المتجانسة نصل، كما يقول "بروك" إلى التأثيرات والانطباعات التي لا تنسي في مسرحياته، ولأن التناقضات قوية، فإنها تشتعل بداخلنا".

في هذه العبارة يري "بروك" مسرحية "الملك لير" باعتبارها قصيدة كبيرة مركبة تصل إلى الأبعاد الكونية من خلال إظهارها لخواء وتفاهة اللاشئ والصورة الإيجابية والسلبية الكامنة في الصغر.

والتناقض ضروري للعرض المسرحي الناجح، إذ يقول "زيمي" مؤسس مسرح "النو" الياباني (1363-1444) في دراسة تحمل عنوان "التقاليد السرية النو"، "ليكن معلوما أن اللحظة الحاسمة في التوازن المتناغم في كل شئ، بين السالب والموجب هو التكامل، ولو فسرنا كل منهما علي حدة فلن يكون هناك توازن وتناغم ويستحيل الإتقان".

وبالنسبة لمفكرين تقليديين مثل "زيمي" و"جاكوب يوهم" و"جوردييف"، علاوة علي عدد آخر من الفلاسفة الذين يقوم فكرهم علي المعرفة العلمية مثل "بيرس" و"توباسكو"، فإن التناقض هو العلاقة الدينامية المتبادلة بين ثلاثة قوي مستقلة وحاضرة آنياَ في كل عملية في الواقع، وهذه القوي هي قوة إيجابية وقوة سلبية وقوة توفيقية، ولذلك فإن الواقع له بنية دينامية ثلاثية.

فمثلا استخدم "زيمي" قانون Johakyu الذي أشار إليه "بروك" حي Jo"" تعني البداية وha" " تعني الوسط أو التطور و kyu"" تعني النهاية، وطبقا لـ "زيمي" لا يمكن تقسيم العرض المسرحي فحسب إلى بداية ووسط ونهاية، بل يمكن تقسيم كل جملة وحركة وخطوة إلى بداية ووسط ونهاية.

ويمكن تمثيل المساحة الخالية في مسرح "بيتر بروك" بالمثلث، قاعدته في مواجهة المشاهدين، وجانباه الآخران للحياة الداخلية للممثلين وعلاقاتهم مع زملائهم في العرض، وهذا التجلي الثلاثي حاضر دائما في كتابات "بروك" وتجاربه علي خشبة المسرح، ففي الحياة اليومية تتحدد علاقاتنا بالمواجهة بين حياتنا الداخلية وعلاقاتنا مع زملائنا وشركائنا: وهذا المثلث ناقص ضلع لأن قاعدته (أو الجمهور) غائبة، والممثلون في المسرح مضطرون لمواجهة وتحمل مسئولياتهم النهائية والعلاقة مع المشاهدين التي تمنح المسرح معناه في النهاية.

وهناك بنية ثلاثية أخري متفاعلة يمكن أن توجد في المسرح لو أننا وافقنا علي مفهوم "المراكز" عند "جوردييف" الذي اعتقد أن ما يميز الإنسان عن الكائنات العضوية الأخري هو حقيقة أنه "ثلاثي التمركز" أو أنه ذو ثلاثة مراكز، وبالطبع يمكن تشبيه الإنسان بالمثلث – حيث تمثل القاعدة المركز العاطفي (موضع التوفيق)، والجانبان الآخران يمثلان المركز الفكري (موضع التأكيد)، ومركز المحرك الغريزي (موضع النفي )، والتناغم فيما بينها ينشأ من حالة التوازن.

ومن الواضح أن ظروف الحياة الحديثة تفضل توظيف المركز الفكري، وعلي وجه الخصوص الجزء الذاتي الحركة في ذلك المركز، أو ما نسميه "النشاط المخي". فهذا العنصر الفكري الذي هو بالطبع وسيلة إلى غاية وتقمص دور الطاغية الكلي القدرة، ولذلك فإن الذي يمثل الإنسان مهدد بالتمزق، علي حساب التطويل غير المتناسب لأحد جوانبه. والفراغ المسرحي، في المقابل، لا يمكن أن يفشل في إدراك عواقب هذه العملية.

ويتذكر "جون هيلبر" – وهو أحد الممثلين في مختبر "بروك" – دهشته أثناء الرحلة إلى أفريقيا عندما سمع "بروك" يتحدث عن دور النشاط المخي بقوله "يشير إلى عدم التوازن بداخلنا حيث كان يتم تقديس فروة الفكر الذهبية علي حساب المشاعر والتجربة الحقيقية" و"بروك" هنا مثل "يونج" يعتقد أن الفكر يحمينا من المشاعر الحقيقية، ويكبت أو يموه علي النفس من خلال تقديم مجموعة عمياء من الحقائق والمفاهيم، ومع ذلك، وكما تحدث "بروك" عن هذا، فقد اندهشت بقوة لحقيقة أنه، كنموذج فكري متفوق، يعبر عن نفسه بهذه الطريقة. فباعتباره الشخص الذي وصف القرن العشرين بأنه مقيد عاطفياَ، فإن "بروك" لم يذرف الدمع علي ذلك المسرح المميت الذي يعتبره التعبير الملائم عن ذلك العنصر المخي الذي يحاول مواءمة المشاعر والتجربة الحقيقية، ولذلك فهو يقول:

"لجعل الأمور أسوأ، هناك دائما ملتقي مميت يستمتع لأسباب خاصة بعدم التركيز وعدم الترفيه، مثل المثقف الذي يخرج عن نظام أداء الكلاسيكيات، وهو يضحك، لأن لا شئ يصرفه عن محاولة تأكيد نظريته المحببة إلى نفسه، بينما يرتل بعض سطور من النص، وهو يود من كل قلبه مسرحا أكثر نبلاَ من الحياة، ويخلط نوعا من الإشباع الفكري مع التجربة التي يتطلع إليها".

والتناغم بين المراكز يسهل تطوير صفة جديدة للفهم الفوري المباشر الذي لا يمر خلال فلتر التشويه في النشاط المخي، ولذلك يمكن أن يظهر ذكاء جديد: بمصاحبة العواطف هناك دائما دور للذكاء الخاص الذي لم يكن موجودا في البداية، ذكاء يتم تطويره كوسيلة اختيار.

ولذلك يتضح لنا الوسائل التي يمكن لنا من خلالها أن تكتشف القاعدة المشتركة من خلال تحريك التوسيط في المراكز الأسرع، فخلال تدريبات عرض "كارمن" طلب "بروك" من الممثلين أن يمشوا وهم يصدرون أصواتاَ تتدرج من صوت البيانو إلى الصوت المرتفع دون تبديل للحركة الدينامية. وقد كشفت صعوبة هذا التدريب عدم التناغم بين المراكز، وإعاقة المركز الفكري للمراكز الأخري الأسرع، ويمكن مقارنة هذا التدريب مع تدريب آخر حيث يطلب إلى الممثلين تمييز الإيقاع بأربع حركات بالقدم وثلاث حركات باليد، مع السماح بتوظيف تدريبات لبعض المراكز في لحظات معينة، فالممثل بتثبيته في توجه معين يمكن أن يكتشف التوظيف المتناقض لهذه المراكز المختلفة، وبذلك يجد من خلال التجربة، الطريق إلى المزيد من التوظيف المتناغم والمتكامل.

ونود هنا أن نؤسس نقاطا توضح التطابق بين مثلثي "بيتر بروك" ومثلث "جوردييف"، وهذا التشابه علي وجه الخصوص بين مركبات هذين الممثلين يوضح لنا دور المشاهد في طاقته كمحفز لمركز الانطباعات العاطفية، مع أنه يمكن أن يقودنا بعيدا عن اهتماماتنا الفورية هنا،

 وعلي أية حال، لا يمكن استبدال أي تحليل نظري في ثراء تجربة الانغماس في الفراغ المسرحي عند "بيتر بروك".

ولعل أروع تصوير للدور الحاسم للخبرة في أعمال "بيتر بروك" هو الإعداد لعرض "مؤتمر الطيور"(المأخوذ عن كتاب "فريد الدين العطار" (منطق الطير)، إذ بدلا من قيامه بإقحام الممثلين في دراسة موسعة لكتاب "العطار" أو ربطهم بتحليل شامل للنصوص الصوفية العربية، دفعهم إلى رحلة مذهلة وغريبة إلى أفريقيا، وبعد مواجهة صعوبات اجتياز الصحراء الكبري، أجبرهم "بروك" علي الارتحال أمام سكان القري الأفريقية، وبذلك اتجهوا بشكل عنيد إلى مواجهة أنفسهم : كل شئ فعلناه في هذه الرحلة هو تدريب علي رفع الإدراك إلى مستوي مفهوم، إذ يمكنك أن تسمي أداء العرض "التدريب الكبير" لكن كل شئ يغذي العمل، وكل ما يحيط به هو جزء من اختبار أكبر في المعرفة، وهذه سمة "التدريب المتسامي".

وبالطبع يمكن مواجهة الذات بعد عملية شاقة وطويلة من تعليم الذات الذي هو مفتاح فهم قصيدة "العطار"، وهذا النوع من التناول التجريبي والعضوي للنص له قيمة أكبر من أي دراسة نظرية ومنهجية، لأن قيمته تتجلي في التأثير في تجربة خاصة جدا، وكما يقول "بروك": "إنها تؤسس أكثر السمات الملموسة".

ولا شك أن تعليقاته علي "الاورجاست" ذات مغزي، وملائمة لعرض "مؤتمر الطيور" كما هو الحال بالطبع بالنسبة للعروض الأخري : "النتيجة الطبيعية التي نسعي إليها ليست هي الشكل أو الصورة، بل هي مجموعة من الشروط التي يمكن أن تنشئ خاصية معينة للعرض، وهذه الخاصية ترتبط مباشرة بالدوران الحر للطاقات خلال عمل محدد ومفصل في الإدراك، فالنظام مرتبط بالتلقائية التي ترتبط بدورها بالحرية.  

الهوامش:

(1)   المساحة الخالية تأليف بيتر بروك 1977.

(2)   ستيفان لوباسكو "المراكز الثلاثة" 1982.

(3)   "التقاليد السرية لمسرح النو" تأليف "زيمي" 1960.

(4)   "الفعل الثقافي" تأليف بيتر بروك 1980.

(5)   "مؤتمر الطيور" تأليف "فريد الدين العطار".

(6)   "العناصر " تأليف " ب. د . أوسبنسكي" 1978.

 

تأليف: باساراب نيكوليسكو

ترجمة: أحمد عبد الفتاح

المصدر / جريدة مسرحنا العدد 159

21 يونيه 2010

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,253,221